** يترددُ عن فلاسفة الإغريق وسمُ الفضيلة بأنها توسط بين رذيلتين؛ فالكرمُ في منتصف المسافة بين التقتير والتبذير، والشجاعةُ بين الجبن والتهور، وهي فلسفة بلا معنى إذ لا منطق يستطيع أَطْر القيم داخل معقل التقويم الذاتي أو الجمعي، وما يُرى حديًّا في الاتجاهين سيبدو وسطيًا، وما نحسبه وسطيًا سيكون تطرفيًا، ولا أحد سيعترف على نفسه بأنه يسكن الموقع المغترب أو يُلحن الإيقاع المضطرب، وثمة ما يصعب قياسُ فضيلته من رذيلته؛ فليس الكلام كما الكتابة مما يمكن تحديدُ موقعه وإيقاعه وفق النظرية الإغريقية وإن ظهر الصمت والثرثرة ضمن الحديّة الحسية والمعنوية.

** والسؤال هنا: لماذا نحكي وقت لا قيمة للحكي؟ ولماذا نسكت إذ يتطلب منا الموقفُ المشاركة؟ وأين الفضيلة؛ أفي صمت المتكلم أم ثرثرة الصامت؟ أم أنه في مسارٍ مختلف يفترضُ تقديرَ كلِّ حالة وَفق ظرفها الزماني والمكاني والإنساني وهو الأقربُ للتماهي وليس للتباهي.

** لدى بعض إعدادات وسائط التواصل منطقٌ صادم حول رغبة المشترك في حذف حسابه بعد وفاته؛ فإن وافق فثمة خيار كي يطلب إلغاء صفحته بصورة نهائية حين يجيء أجله، أحسن الله خاتمتنا، وتداعيات الأمر جُلّى؛ فما قد نحذفه من العالم الرقمي لا يمثل شيئًا أمام ما نعرفه نحن عن أنفسنا من خير وشر، وفي مقابل ما يسجله علينا من وصفهم سبحانه بـ: «حافظين، كرامٍ كاتبين، يعلمون ما تفعلون»، والقضية هنا يتبعها استفهام ملح؛ فلماذا نريد حذف ما وثقناه في الوسائط الرقمية؟ ولم وثقناه إذا كنا نريد حذفه؟ ولم لا نراجعه اليوم وقت الصحة والحياة قبل أن تحين الوفاة فنعتذر الآن من البشر ونستغفر رب البشر.

** هذه ذاكرةٌ مؤقتة طارئة قابلة للإلغاء الشكلي، وثمة ذواكر أخرى ملتصقة بتكويننا العقلي والنفسي لا يمكن الانفكاكُ منها حتى في حال النسيان والخرف والمرض، بل والموت؛ فهي أحد شهود ما نجترحُه من سيئات مثل ما نكتسبه من حسنات؛ فشريحة لا تكادُ تُرى تُواجه فلسفات العدميين الذين يشككون في وجود الرقيب العتيد.

** وإذن؛ فما قيمة الذاكرة الافتراضية المنفصلة عنا أمام الذاكرة الحقيقية الملتصقة بنا؟ ولم جاءت الأولى متغيرة والثانية ثابتة؟ وإذا أمكن «المحو» السطحيّ فماذا عن الدائم العميق؟ وكيف ستلاحقنا كلماتُنا لتكونَ شاهدًا معويًا أو ضديًا؟

** والمؤدى هو أن التوسط والوسطية وهمٌ فلسفي استظلَّ به من حاولوا النجاءَ من تحديد موقف أو تقرير اتجاه، وكأنهم عادوا أطفالًا حين يختصم صديقان فيجبر المتفرجون منهم على الانحياز لأحدهما؛ فمن شاء الحيادية أُجبر أو أُنكر، والبديل هو الهروب الشخصي أو النصيّ طمعًا برضا الطرفين، وفي التأريخ السياسي سادت مظلة عدم الانحياز ثم بادت، وللطفولة حدٌ كما للكلمة عهد؛ فلنمحُ قبل الكتابة، ولنقف قبل المسير فإن لم فقبل المصير.

** الذاكرة قيد.

** عنوان زاوية كتب تحتها صاحبكم بضع سنين.