منذ 13 أغسطس 2020 وعقب إعلان الولايات المتحدة عن رعاية اتفاقية سلام بين دولة الإمارات العربية وإسرائيل والفضاء الإعلامي يطفح بمفردات كثيرة سياسية، واقتصادية، وإعلامية، من بين ذلك مصطلح أو كلمة التطبيع، وبهذه المناسبة ليست المرة الأولى الذي أتناول المصطلح فسبق أن كان لي مقال في هذه الصحيفة بعنوان ذهنية التطبيع، بتاريخ التاسع والعشرين من شهر أغسطس الماضي. دار حينها عن الذهنية السياسية العربية وكيف أنتجت هذا المفهوم من جديد بشروطها الخاصة. اليوم أتناول الموضوع من زاوية أوسع وهي زاوية الناس، أي كيف ينظر الناس للتطبيع؟ الناس هنا في المعنى الواسع، الإنسان العربي في كل مكان في الخرطوم، وأبو ظبي، والكويت، ونواكشوط، والقاهرة. ثم كيف لنا كمراقبين مستقلين، وباحثين معرفة رأي الطلبة والعمال والمحامين وسائقي حافلات النقل العمومي، كيف لنا أن نعرف رأي الطبقة المتوسطة التي يفترض بأنها مهتمة بما يجري اليوم في المنطقة. الهدف بطبيعة الحال ليس انتصارا للتطبيع من عدمه، بقدر ما هو بحث عن إجابة ثالثة قد تكون متوارية خلف السؤال والحوار تذهب مباشرة لقياس، ومعرفة مقدار التغير في الذهنية السياسية العربية خلال الأربعة عقود الماضية. عبر إعطاء مؤشرات عامة مثل باقي كما هو أو تغير بشدة او تغير بشكل بسيط. والأهم من ذلك كشف درجة إلمام الإنسان بالمتغيرات الحديثة في موازين القوى الإقليمية والدولية، وتغير مسارات التحالفات بين القوى المتصارعة تقليدياً على القوة ومصادرها.

أجزم بأننا لا نبحث عن مستحيل ولكن وبكل تأكيد أن عملية البحث عنه ليس بالأمر اليسير وتعود الصعوبات في تقديرنا إلى مجموعة من النقاط أبرزها. أن الوطن العربي إلى اليوم لم تبرز فيه وحدات معتبرة لقياس رأي الناس حول الأمور السياسية والاجتماعية وربما الثقافية. ومعنى معتبر هنا أن وحدات القياس تكون على غرار الموجودة في الدول المتقدمة.

ثم هناك معضلة بنوية في بنية الثقافة السياسة العربية تتمثل في وجود ما يمكن تسميته بالعزوف الشعبي عن السياسة والعمل السياسي. حتى إن المراقبين يصابون بخيبة أمل كبيرة عندما يلاحظون نسب المشاركة المتدنية في اَي عملية انتخاب، تجري في الدول التي لديها نظام انتخابي، ويذهب البعض إلى تفسير ذلك بأن الناس يفضلون النظر إلى ذلك اليوم على أنه يوم إجازة يمارسون فيه النوم أو قضاء الحاجات الأخرى.

وهناك ايضاً وفِي كثير من البلدان العربية امتزاج بين الرأي الرسمي ورأي الناس من عامة الشعب. فنجد أكثر المواطنين في الدولة ألفا أو الدولة باء يتبنون بشكل أتوماتيكي الرأي الرسمي لدولهم، حتى إن بعض المحللين المعروفين عند طرحهم بعض القضايا للنقاش العام مع الناس يقول بوضوح إن رأيه لا يخرج عن رأي بلده الرسمي في تلك القضية أو ذلك الأمر.

الملاحظة الأخيرة تبين أن تعاطي الناس في الوطن العربي مع هذا المصطلح في هذه الفترة غلب عليه النقاش غير الموضوعي، إن أكثر من يستخدم المصطلح يحمله معناه العربي المعدل الذي لا يخرج عن الخيانة وسوء السلوك السياسي حتى من مواطني دول أقدمت على تجربة التطبيع منذ عقود، وهذا محير جدا.

ما أزعم أنه يحرك المصطلح بقوة في المنطقة التصريحات الدولية والأمريكية على وجه الخصوص التي تتحدث أحيانا بأنه حتمي الحدوث بين إسرائيل ودول أخرى في المنطقة، ومرات تؤكد على أن هناك أسماء لدول عربية ستخوض التجربة وأنها فقط تنتظر الوقت المناسب.

الناس مهم معرفة آرائهم وميولهم ودرجات قبولهم، وسيكون ذلك متاحا عندما تتوفر أدوات قياس طبيعية في المجتمع تسمح للناس بالتعبير عن الأحداث الكبيرة التي تحدث بين ظهرانيها، وترشد صناع القرار إلى أين يتجه الرأي العام.