تفجرت مؤخراً موجة جديدة من التظاهرات في الشارع التايلاندي، بعد أن ساده الهدوء خلال معظم أشهر العام الماضي.

ويبدو أن الذي يحدث اليوم ليس سوى تكرار لما حدث في أواخر عهد الملك السابق «بوميبول أدونياديت» الذي حكم البلاد منذ عام 1946 وحتى تاريخ وفاته سنة 2016 عن عمر ناهز 88 عاماً.

والمعروف أن الملك الراحل، خلال فترة حكمه الطويلة، جعل مملكته نموذجاً للملكية المستقرة المحققة للنمو والازدهار الاقتصادي، رغم تعاقب الانقلابات العسكرية التي لم تمس الملكية كنظام.

هناك ملاحظتان توقف عندهما المراقبون في الاحتجاجات الجديدة: أولاهما أن المتظاهرين ــ في احتجاجاتهم ضد حكومة رئيس الوزراء/‏‏ قائد الجيش السابق الجنرال «برايوت تشان أوتشا» الذي يصفونه بالعقل المدبر لانقلاب عام 2014، والمزور لانتخابات عام 2019 ــ يستنسخون الطرق والأساليب ذاتها التي يمارسها نظراؤهم من الشباب والطلبة في هونغ كونغ.

أما الملاحظة الثانية فهي أن المحتجين الجدد توسعوا في مطالبهم، فلم تعد مطالبهم مقتصرة على رحيل الحكومة وإجراء انتخابات ديمقراطية جديدة تعتمد الشفافية لمجلسي النواب والشيوخ، وإنما أضيفت إليها مطالب أخرى مثل: إعادة كتابة الدستور بحيث يتضمن بنوداً تحد من مخصصات الملك المالية.

والمعروف أن التعرض للملك ومساءلته كان من المحرمات في ظل الملك السابق، بل كان يعاقب عليه المتهم بعقوبات تصل إلى المؤبد.

لكن يبدو أن ما كان يـُحترم في عهد الملك الراحل، صاحب الهيبة والمكانة المقدسة في نفوس غالبية الشعب، لم يعد يـُراعى في عهد ابنه الملك الحالي «ماها فاجيرالونجكورن» الذي يـُقال أنه لا يحظى بشعبية والده.

وبمعنى آخر، يمكن القول إن المستجدات في البيت الملكي التايلاندي العريق أعطت للتايلانديين فرصة إظهار نوع من التنمر غير المسبوق ضد الملكية الدستورية، بل الدعوة علانية وبجرأة غير معهودة إلى شفافية أكبر في الشؤون المالية للملك، وإلغاء القوانين ذات الصلة بالمس في الذات الملكية.

ولعل أوضح برهان على صحة ما نقول هو أن حركة الشارع الاحتجاجية، لم تكتف هذه المرة بصب غضبها على رئيس الوزراء، ومحاصرته في مقره، وتحدي قانون الطوارىء الذي لا يسمح بالتجمعات لأكثر من أربعة أشخاص، وإنما تجاوزت كل ذلك إلى القيام بمحاصرة موكب للملك ومواجهته بشعارات تطالب بالديمقراطية.

ومثل هذا العمل الجريء ــ بطبيعة الحال ــ لم يُعـرف من قبل في تاريخ تايلاند المعاصر.

إزاء هذه التطورات لم يكن أمام رئيس الوزراء، الذي بدا ضعيفاً ومرتبكاً، سوى اتخاذ جملة من الإجراءات لحماية الملكية ومنع دخول البلاد في حالة من الفوضى، تزيد من إرهاق اقتصادها المرهق حالياً بسبب تداعيات جائحة «كورونا».

وقد اشتملت هذه الإجراءات على مواجهة المحتجين وتفريقهم سواء في العاصمة بانكوك أو في أقاليم البلاد البعيدة؛ وتشديد الرقابة على وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الإعلامية التي يستخدمها المحتجون في تنظيم حركتهم وتغطيتها إعلامياً؛ وإغلاق نظام النقل الجماعي وشبكة السكك الحديدية منعاً لوصول المتظاهرين إلى مواقع الاحتجاج المعلنة؛ ومنح ضباط الجيش والشرطة سلطات إضافية لضبط الأمور بموجب قانون الطوارىء.

وقد توّجت الحكومة إجراءاتها هذه بالدعوة إلى عقد جلسة استثنائية للبرلمان، بهدف النظر في تخفيف التوتر وكيفية مواجهة عمليات الكر والفر من تلك التي تدرب عليها المحتجون بإتقان في مظاهراتهم السابقة ضد الديكتاتورية العسكرية عام 2010.

في هذا السياق، لا يجد المتابع للشأن التايلاندي مناصاً من الإشارة إلى أمر خطير هو أن منظمات حقوق الإنسان الغربية، التي اعتادت دس أنفها في الشؤون الداخلية للدول بحجة تحقيق العدالة وإنفاذ القانون، اتخذت في ما خصّ أحداث تايلاند هذه موقفاً منحازاً ضد الحكومة، واصفة كعادتها المتظاهرين بالمحتجين السلميين، وضاربة بعرض الحائط حقيقة أن مواجهة السلطات لهم هي من صميم واجباتها لمنع الفوضى وترسيخ الأمن وحماية الممتلكات العامة والخاصة وتسهيل ممارسة الناس لحياتهم اليومية بشكل طبيعي.

تحتج هذه المنظمات ــ التي فقدت مصداقيتها ــ على استخدام السلطات التايلاندية لخراطيم المياه والأصباغ لتفريق المحتجين والإعلاميين الأجانب المتطفلين، وتعتبر هذا العمل استفزازياً ومبالغاً فيه وغير مبرر، على الرغم من أن إجراءات سلطات بانكوك لم توقع حتى الآن قتيلاً أو جريحاً، ولم تبلغ مستوى تصديها لاحتجاجات الطلبة عام 1973 حينما استخدمت الحكومة العسكرية آنذاك الدبابات والمروحيات والأسلحة الآلية لقمعهم، فسقط أكثر من 270 قتيلاً.

وهذا الاحتجاج من المنظمات الحقوقية ليس غريباً ــ بطبيعة الحال ــ لأنه تكرر مراراً في حالات فوضوية مشابهة في دول أخرى، ولاسيما الدول العربية أثناء أحداث ما أطلق عليها «الربيع العربي»، والتي تبين الآن ــ من خلال الكشف مؤخراً عن إيميلات هيلاري كيلنتون ــ أنها كانت من تدبير وتنظيم وتآمر جهات أجنبية حاقدة ضد الأنظمة العربية الشرعية.