لا يفاجأ اللبنانيون كثيراً بأخبار الفساد، فالعِلَّة رافقت الجمهورية منذ الاستقلال، ولطالما اعترضوا على هدر مُقدرات البلاد وتجييرها لمصلحة أشخاص وأطراف وبقي الفاسدون سادرين في غيِّهم، بل وصلوا الى أعلى المرتبات وتحكّموا بمصائر الناس.

أما ما كان مذهلاً وصادماً الاسبوع الماضي فتكشُّف حجم فساد ضباط كبار خدموا في المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية وموظفين أساسيين نهبوا وزارات، بعد الجدل الذي أثاره وزير الداخلية عن نسبة "حرزانة" من الفاسدين بين القضاة.

ليس جديداً الاستنتاج بأننا نعيش في غابة ذئاب شعارها "حاميها حراميها"، لكن سيُشفي غليل المواطنين قليلاً رؤيتهم أصحاب نجوم ونياشين وسيارات فارهة وسيكار، تفاخروا طويلاً ومارس بعضهم الأذية، يساقون الى التحقيق بتهمة "الاثراء غير المشروع" وامتلاك الملايين وعشرات العقارات، آملين بعدالة لا تسمح للمرتكب بالإفلات من العقاب.

ليس مبالغة أن اضطرار بعض القضاء وشركاء المنظومة الى فضح ملفات الفساد مردهُّ الى الضغط الهائل الذي مارسته ثورة 17 تشرين. فصحيح ان الأجهزة والميليشيات أجهضت هدفَها في اقتلاع السلطة، لكنها فشلت في مصادرة الوعي الشامل الذي أحدثته في صفوف الشباب والمجتمع، خصوصاً حين ترافقت مع النهب الشامل الذي مارسته المصارف بالتواطؤ مع "الحاكم" والحكام.

ما نشهده من فتح كيدي للملفات مستهدِفاً أطرافاً سياسية أو أتباع شخصيات لها خصومة مع حامل مفاتيح القضاء لن يجعلنا معترضين على هذا المسار، بل يدعونا الى تشجيع المستهدَفين على معاملة خصومهم بالمثل مستخدمين "أدواتهم" أيضاً لفتح ملفات. وليس علينا في هذه الحال الا استلهام دعاء "اللهم اضرب الظالمين بالظالمين...".

لا طُرقَ كثيرة للاصلاح. فرحيل المنظومة الحاكمة التي ابتلي بها لبنان دونه عقبات سياسية وطائفية وأمنية أثبتت صلابتها وقدرتها على الهجوم المضاد وامتصاص الصدمات. ودليلُنا تشكيل حكومة اللون الواحد وامتدادها حكومة المحاصصة العتيدة بعد رفض الانتخابات المبكرة طريقاً ممكناً للخروج من المأزق السياسي. لذا يبقى الرهان على ان التشقق في جدران المنظومة، بفعل التناقضات المافياوية الداخلية والضغط الشعبي والعقوبات الخارجية تحت عنوان الفساد، يتيح للقضاء المبادرة الى ممارسة دور غاب لسنوات طويلة إما لأن المنظومة صادرته أو لأن التواطؤ ودناءة النفس حجبا عن المواطن حقه في محاسبة الفاسدين.

قضاؤنا امام اختبار قاس في مواجهة الفساد، وأمام امتحان تاريخي في إظهار حقيقة جريمة العصر المتمثلة بتفجير 4 آب. المهمة الثانية أكثر خطورة وأشد أهمية، لكن المسارين يتكاملان ولبنان يحتاجهما لإثبات ان المحاسبة يمكن ان تطال السارق والقاتل على السواء.

نحلم بـ"ثورة قضاء" تتحرر من الولاءات للزعماء والطوائف والأطراف السياسية والأحزاب. وإذ نقبل بربع الحلم، نراهن على نخبة قضائية شجاعة يجب ان تعتبر ان لديها تفويضاً قانونياً وشعبياً وأخلاقياً، فلا تتردد في الاستدعاء والتحقيق والاتهام لكل من استباح مالاً عاماً وخاصاً وحُرمات. لا نطلب من القضاء المستحيل وندرك صعوبة ملفات تمنع "القوةُ القاهرة" وصولَها الى نهايات. لكن، فلتكُن البداية من "الإثراء غير المشروع"، وليبدأ ليس من ضباط وكبار قادة وموظفين فقط، بل من قضاة سابقين وحاليين ايضاً، كي يصيروا أمثولة لسائر الناس.