لا أتردد في قول ما أظنه حقيقة، أو ما أعتقد أنه حقيقة، ولا أخشى في ذلك لومة لائم. وعندما كنت صبيا يافعا قرأت أن بعض تلاميذ مدرسة أثينا القديمة، أخذوا على أرسطو، إنتقاده افلاطون، أستاذه في الفلسفة، وحين سألوه عن السبب، أجاب:"أريد الحقيقة، وأريد افلاطون، لكني أريد الحقيقة أكثر مما أريد افلاطون". بقي قول الفيلسوف الذي أطلق عليه قدماء العرب لقب المعلم الأول، محفوراً في وجداني على مدار عمري، وأخذته شعاراً فلم أنتم في حياتي كلها إلى عقيدة حزبية أو دينية أو سياسية، وعندما انتخب ميشال عون رئيسا للجمهورية اللبنانية في خريف العام 2016، كتبت مقالا عنيفا ضده بعنوان "رسالة إلى ميشال عون مجردة من لقب الرئيس" وأرسلته إلى الصديق المرحوم المحامي شوقي بويز، للوقوف على رأيه، فقرأه المرحوم شوقي بإنعام، وحذرني من نشره وقال لي: إياك ثم إياك، واعتبر أن ما فيه هو بمنزلة حرب على رئيس الجمهورية. لم تكن حملات الانتقاد على ميشال عون كانت قد بدأت بعد، وكان بمقدورالرئيس اللبناني أن يحيلني على المحاكمة وعلى السجن، لكني لم اكترث، ومضيت غير مبال، ونشرت المقال في جريدة "الأخبار" اللبنانية، ثم جاء من يقول لي في ما بعد إن عون قرأ المقال، لكنه لم يلجا إلى أي تدبير بحقي، وهو ما كان المرحوم شوقي يخشاه عليّ أكثر مما كنت أخشاه على نفسي! أبديت عدم اعترافي كمواطن لبناني حر، بميشال عون رئيسا للبلاد، ولا أزال عند هذا الراي، واعتبر الزعماء اللبنانيين كلهم مسؤولين عن الخراب الذي حل بالوطن الصغير الذي كان أخضر وجميلا، فحولوه إلى بلد من أسوأ بلدان المنطقة والعالم. لا استثني من هؤلاء أحداً، حتى الذين هللت لهم الجماهير، وأقامت الحكومات المتعاقبة لهم التماثيل، ووضعت اسماءهم على الجادات والساحات، والسبب بسيط،هو أنهم جاؤوا إلى مراكزهم على سلم هويات طائفية لا علاقة لها بالإيمان، وضررها على البلاد على المدى الزمني البعيد، يفوق أي خدمة يسديها الزعيم للشعب ويراها الناس جليلة. وأي لقمة عيش يطرحها أمام النفوس الفاغرة أفواهها، وأي "حسنة" يقدمها لهذا الفريق أو ذاك، وهي محاولات ملؤها الدهاء والخبث، ولا غاية منها على أي حال، إلا التغطية على مصالح الزعيم الشخصية، ومصالح الذين من حوله من الأتباع والأجراء، وأصحاب المصارف وحيتان المال.
إذا اتفق وسألتني أيها القارئ الكريم ما الداعي إلى هذه المقدمة وموضوع المقال هو عن الصحافي والكاتب الراحل رياض نجيب الريس، فجوابي هو أن رحيل رياض أحزنني وأشعرني بالندم، ومصدر هذا الندم هو أنني مارست هذا "المبدأ المثالي" أو "العناد في قول الحقيقة" ، بحق الراحل رياض، وهو في أوج مرضه. حدث ذلك في مقال انتقدت فيه بعض ما جاء في سيرته الذاتية، التي نشرها في كتاب عنوانه "صحافي المسافات الطويلة"، ونقلتها عنه الصحافية السورية سعاد جروس. كان بوسعي أن اتفادى النشر رأفة برياض، وأعفيه من الزعل، واعفي نفسي من الحزن الذي انتابني ساعة بلغني نبأ رحيله، وما زال يحزنني حتى وأنا أدون هذه السطور، من دون أن يعني ذلك أني أتراجع عن فحوى ما كتبت، وما كنت اظنه يومها حقيقة، وما زلت أعتقد انه حقيقة، وأي معنىً يبقى من كلمة يكتبها صاحبها ويراها كلمة حق، إذ هو تراجع عنها ودفن رأيه في التراب، إرضاء لمن لا رأي لهم؟!
ربما أجد بعض العذر فيما كتبت، لأن المرحوم رياض ساعة أهداني كتابه ونحن في مقهى كنا نتردد إليه في بيروت، كان يتوقع أن أكتب كلمة حول الكتاب. نشرت المقال في جريدة "الاخبار" اللبنانية، واذكرأن الأستاذة أمل الأندري، المسؤولة في القسم الثقافي في الصحيفة المذكورة، اتصلت بي تستحثني بلطافة ورقة، على أن أخفف من النقد، لأن رياض مريض وكسيح على مقعد متحرك، فتمنعت، ثم نزلت عند رغبتها وحذفت بعض المقاطع، وأبقيت على بعضها الآخر، وليتني حذفت المقال كله. ها أنا الآن، أقول للآنسة التي لا أعرفها:" كنت حكيمة وذكية أيتها الزميلة العزيزة، فأرجو المعذرة على موقف مني ربما وجدت فيه شيئا من رعونة ونشوز".
لا بد أن هذا الندم هو من عوارض الموتى على الأحياء. ربما لو كان رياض الريس لا يزال بعد حياً، ما كنت بحاجة إلى كتابة هذه السطور، ولا أن اقدم هذا الاعتذار إلى الزميلة أمل، والذي لن اتحرج في تقديمه إلى كل من عرف رياض الريس، وقرأه صحافيا وكاتباً. مهما يكن، الحياة مدرسة واسعة لا حد لها، والتجارب تعلمنا دوماً ما ليس في الحسبان، وهذه التجربة تجعلني أتساءل، ما إذا كان رحيل بعض الناس يجعلنا نشعر بالندم على ما قد سبق وكان بيننا وبينهم من خصومات، أو فوارق في النظر وهم في قيد الحياة، فإذا غيابهم يجعلنا نعود إلى ذواتنا الحقيقية، كما يجب أن تكون، أو نتمنى أن تكون؟ هنا يخطر في بالي قول أبو العلاء المعري "لا تظلموا الموتى وإن طال المدى/ إني أخاف عليكم أن تلتقوا"! هل يصدق حدس ذلك الشاعر الضرير البصير، أن البشر قد يلتقون في عالم غير هذا العالم الفاني؟ لست أدري، لكن إذا اتفق والتقيت الراحل رياض في الرياض التي تقول "الكتب المقدسة" إنها النعيم، فسوف اعتذر له اشد الأعتذار، واطبع قبلة على جبينه.
أحب هنا، والحديث عن الراحل رياض، أن انوه بجريدة "النهار" التي كتبت عن رحيله ما فيه الكفاية، وبجريدة "الأخبار" التي افردت عنوانا عريضا عن رياض، وبقناة "الجديد" التي بثت تغطية واسعة عن حياته، وكفاحه في عالم الكتابة والصحافة. ولد رياض نجيب الريس في دمشق في العام 1937، وفي دمشق رضع حبر الكتابة من محبرة ابيه نجيب الريس، الذي كان شاعرا وكاتبا وصحافيا وسياسيا .أسس الريس الأب صحيفة "القبس" الدمشقية في عشرينات القرن الماضي، وكانت إحدى كبرى صحف زمانه، وناضل بالقلم ضد الوجود الفرنسي في بلاده، فسجن مرات عدة، وتوفي في العام 1952 وكان رياض الإبن في الحادية عشرة. عاش رياض الريس حياة لا تعرف الفتور، حافلة بالأمال العريضة والأحلام العذاب. سار على درب أبيه، حاذيا حذوه في الصحافة والكتابة والنشر، فأسس في لندن أواخر السبعينات صحيفة "المنار" التي لم تدم طويلا بسبب الكلفة المرتفعة. في "المنار" عملت معه ثلاثة أو أربعة اشهر على ما اذكر، وكانت الرواتب تدفع متأخرة، ثم تركتها قبل توقفها لأعمل في مجلة "الدستور" اللندنية التي كان يصدرها الصحافي اللبناني علي بلوط، المنزوي حالياً، أو شبه المنزوي عن الأنظار! درس رياض في جامعة كامبريدج، وبدا حياته كشاعر يكتب في مجلة "شعر" التي أسسها الشاعر الراحل يوسف الخال، ثم عمل في "الحياة" في بيروت رئيساً للقسم الدولي، زمن مؤسسها كامل مروة، وغطى بدايات حرب فيتنام، وعمل بعدها في "النهار" مشرفا على ملف الصحيفة الشهري،، لكنه ظل محبا للشعر، مشغوفا بالجملة الطرية الحارة التي طبعت معظم كتابته السياسية في ما بعد. حبه للأدب، وشغفه بالكلمة الصاحية حملاه على إصدار مجلة الناقد "الشهرية الأدبية التي استقطبت أقلاماً أدبية جريئة حرة من جميع البلاد العربية، لكن "الناقد" كما أختها "المنار" من قبل، توقفت عن الصدور بسبب الكلفة المرتفعة، ومقصات الرقباء على الحدود! من أعمال الراحل أيضاً، افتتاحه مكتبة "الكشكول" بمنطقة "نايتسبريدج" في لندن، وهذه أغلقت كغيرها بسبب الأكلاف المرتفعة في تلك المنطقة الغالية من العاصمة البريطانية.
وضع رياض الريس عدداً من من الكتب بعضها يصح أن يكون مرجعاً، خصوصا عن بلدان الخليج، وقد لا يوجد صحافي عربي مشرقي كتب عن هذا الجزء من العالم العربي بالحجم الذي كتب فيه رياض الريس، وقد هيأت له تلك الكتابات صداقات وعلاقات واسعة، بعضها كان حاراً وبعضها كان بارداً! كان رياض علماني الفكر والهوى والثقافة، خصال ما أكثر ما يفتقر إليها الكتاب والصحافيون العرب، وقد اكتشفت هذه السجايا في شخصه وأنا في بيروت، ولم ادركها وانا في لندن، لأن لقاءأتنا هناك كانت محدودة. الرحمة على روحه، والعزاء كل العزاء لأهله ومحبيه، لأولاده نجيب وسارة خاصة، ولزوجته الأخيرة السيدة فاطمة بيضون الأمينة على تركته. برحيل رياض الريس، فقدت الصحافة العربية أحد أقلامها الكبيرة، ويبقى الأمل، ان تستمر دار النشر التي تحمل اسمه، تذكرنا به، صحافياً من كبار الصحافيين، وناشراً من كبار الناشرين.