في التراث العربي، الشعبي والمؤرَّخ، فارسان: عنترة بن شداد من بني عبس، وأبو زيد سلامة من بني هلال. الأول عبد إبن آمة، أو جارية، أعتقه والده لما رأى فيه من بطولات، ما بين حصانه الأبجر وسيفه البتّار. والثاني يقولون في خبث، آهٍ لو اكتمل الأمر لفارسنا الجبار وكانت له بشرة أقل سواداً. ثم يذكِّرون بما لا ينسون: وهل كان من الضروري ان تشتهي السيدة خضرة، غراباً؟ دعونا نرى ماذا يمكن ان نفعل. يجب أن يستقيم أصل المهلهل.

كلما خاض لبنان معركة وعاد مقطعاً من ساحة الظنون والإشاعات جناب أمه السيدة خضرة. لكن احد الوجهاء العارفين، أفتى بأنها يوم كانت حاملاً، شاهدت صراعاً بين غربان يتقاتلون، تمكّن أقواهم من دحر الجميع، فتمنّت أن يأتي مولودها اسمرانياً. وتحقق ما تمنّت.

في كل معركة يخوضها بنو هلال، كانوا يزغردون للمهلهل. لكن لا يلبث ان ابن حسب ونسب، أرعب بسيفه العِدا ودافع عن قومه في هجرتهم القاسية من نجد الى تونس الخضراء الى أن قتله دياب بن غانم، “خائن الصداقات وبائع المودّات”.

يجمعُ بين الفارسين، ابن الآمة وابن “خضرة الشريفة”، ان بشرتهما سوداء محروقة. حسنٌ، الأول، أمه جارية افريقية. لكن من أين لأبي زيد الهلالي اللون المشبوه؟ طالت الحرب، طلع له مَن يقول، صحيح ان خضرة سيدة شريفة. لكن دعونا نرى ماذا يمكن ان نفعل لكي نبدد من الأذهان شبهة الزنا واللقاطة.
آخر المنادين بتصحيح هذا الخطأ الخلقي في البلد كان صاحب الزعامة المسيحية المشرقية. يريد تغيير النظام وتعديل #الدستور. هذه المرة لا يخوض لبنان معارك فلسطين وسوريا والرجعية والذيليّة ومرور القضية في جونية وعيون السيمان، في الطريق الى القدس، بل يخوض معركة اسباب الوجود: إما ان يثبت صحة الـ DNA وفق التعديل الوراثي، وإما سوف يجرَّد من شهادة البقاء.

تتأكد المرحلة الأخيرة من السقوط، طبقة فوق أخرى،عندما تدرك ان وطنك لم يعد ينفعه شيء سوى الشفقة. لكن النفس الكبيرة مُتعبة. وما تشاهده وتشهده، فوق الطاقة البشرية على التحمل.

لا يمكن ان يكون كل هذا قَدَرَ أن يتحول صنّاع الدساتير من رحابات وثقافات وطوباويات ميشال شيحا ورياض الصلح وبشارة الخوري الى ما هو حاصل. فالمسألة الأهم ليست المعايير الفضفاضة والقابلة للتمييع والمَّط والفتاوى، وإنما الاوطان والدول والأمم، في المقاييس التي تمنع الخطأ والشطط وتحويل الارتكاب الى منصة واللجاجة الى مبدأ.

فإذا مفهوم المعايير، أن يعيّر لبنان في علّة وجوده: الدستور الذي يحتضن جميع الأرحام، والنظام الذي جعل منه موئل العلم ومربع الازدهار وعنوان التقدم في مشرق تتنازعه جميع انواع العصبيات والتناحر ونزعات التفكك.

لا نتحدث عن لبنان سحيق. بل هذا ما كانه قبل سنوات قليلة، نظيفاً مرتاحاً، رِجلٌ في الحاضر وقدمٌ في مستقبل افضل. فيه فساد السوق، ولكن ايضاً فيه بحبوحتها وحركتها واستفادة العموم من البحبوحة. ليس صحيحاً ان هذا المستنقع الكبير عمره ثلاثون عاماً. هذا الفقر وهذه القلّة وهذه السرقة وهذا الكمّ المعلن من الفساد وفجور الفساد، وهذه الحالة من العداء بين السلطة وجميع الآخرين، ليس عمره ثلاثين. هذه ظاهرة من الازدراء بالناس ومن الغوغائية الفاضحة والمعلنة ولؤم الغطرسة، لم نعرفها حتى عندما كان هذا المخلوق البائس، ابو زيد، في حاجة الى إذن ليعود الى بيته أو يصل الى عمله. مرة من الابوات، ومرة من الاخوان، ومرة من جيش الدفاع الاسرائيلي بقيادة ارييل شارون، يعرض أقبح مشاهد الذل في التاريخ.

لا. ليس معقولاً ان يكون كل هذا قدراً، وغضباً من الله. شبق السلطة له حصته ايضاً، في حروب الحصص والغاز والكاز والنار والنور. هذه الحرب الوحيدة التي لا حصة ولا مكان فيها للبنان. أما حصة اللبنانيين فمحفوظة لهم في البنوك والتسويات المصرفية والسياسية والابتلاء الصحي والاقتصادي والنفسي والاجتماعي والوطني والتعليمي والسياحي، وفي 4 آب الذي لم يتلقَّ أهله حتى اليوم كلمة عزاء، لأننا منهمكون في القضايا الكبرى، مثل الدستور والنظام.

عندما نحتاج الى فروسية ابي زيد الهلالي يكون سليل الحسب والنسب. وعندما يكثر من حوله الطارئون، ينبري من يتساءل عن لون بشرته وسلوك شريفة هانم. مثل ابو زيد. لبنان مشكوك في صلبه وفي رحمه. لذلك، يأتيه كل زمن من يريد تصحيح السجل العدلي. بأي حق وأية صفة وأي تفويض وأية كفاءة؟ لا ندري. لا يزال الدونالد يقول إنه فاز. وإنه سوف يعود الى البيت الأبيض “بطريقة ما”. ماذا يعني هذا الخارج على القانون بكلمة “ما”؟ هذه آدابه. لكنه خرج من البيت الأبيض بالطريقة التي تليق بالكاوبوي الخاسر. خرج وحيداً ناقماً وحانقاً، فيما اميركا تغنّي. وآخر ما فعله قبل خروجه التوقيع، بتلك الطريقة الدونكيشوتية، 140 عفواً رئاسياً على 140 مرتكباً من خارج سوية القوم. لكنه لن يعفي هذا العالم من لجاجته. صحيح انه خرج، لكن ظله يتطلب وقتاً طويلاً كي يتمكن من أن يحمل نفسه ويخرج خلفه.

لجوج، الظل الثقيل، في نزعه الأخير وليلته الأخيرة. ظل ريتشارد الثالث يقول: “ماذا أخاف؟ نفسي؟ لا أحد آخر هناك. ريتشارد يحب ريتشارد، أنا هو أنا…”.
حاول تاجر الابراج انتهاك النظام والدستور معاً. جرَّب التفلت من قسَمه ومن وعوده. ولجأ الى الغوغاء والضوضاء و “الشارع” بكل أشكاله. وفيما هو خارج وحيداً، تاركاَ ظله خلفه، كانت شاعرة شابة سمراء، تلقي قصيدة الفوز على الظلم وابتعاد شبح الظلام. وكانت تعود الى واشنطن لغة الاوادم ويعود خطاب التواضع، إذ قبالة الرئيس الجديد، في الصفوف الخلفية العادية، كان يجلس نفر من ثلاثة رؤساء سابقين، بينهم اوباما، الذي تربُت الليدي غاغا على كتفه طوال الوقت. وهو ايضاً يربت. ما أجمل الرضا، ما أقبح الغضب. جنيفر لوبيز غنّت هي ايضاً “هذه الأرض هي أرضك”، وأضافت “أرضك وأرضي”.

هنا لن يبقى احد في هذه الأرض. كانوا يهاجرون الى كل مكان فأصبحوا يهجّرون الى اي مكان. كانت الهجرة حلماً بالعودة. فأصبحت شعوراً بالتخلي الابدي. يتركون للعاجزين الباقين هنا، رغماً عنهم، أن يموتوا من عصف الانفجار ومن التشرد داخل منازلهم، ومن عدمية المسؤولية والمشاعر وسخف القضايا.

وما يهم. أليس هذا ما تستحقه بلاد الزندقة، والدستور “العفن” و”النتن”؟ والنظام الذي يجب ان يصحح قبل ان نحدد أيها ارضي وأيها ارضك.

يطلب وزير الخارجية السابق لبلده اخراج قيد جديداً وسجلاً عدلياً نظيفاً وشهادة طبيب تثبت ان اي شبهة لونية، مجرد أمنية بريئة في فترة الحمْل.