على غير العادة سأكتب عن ظاهرة استوقفتني وتلامس كل مناحي حيواتنا، ظاهرة مسماها «اثبت نفسك» لكن أين تُثبت وإلى متى؟!

منذ أن يودع المرء طفولته ويلتزم بالدراسة والتحصيل يطلب منه والداه ومعلموه اثبات نفسه في الدراسة، حتى إذا وصل للمرحلة الثانوية ينبغي منه أن يحقق مجموعا يؤهله لدخول الجامعة، وعندما يدخل الجامعة تتكرر نغمة اثبت نفسك كي يتخرج وينال الوظيفة المرموقة ويتحدد مستقبله.

يدخل الوظيفة الموعودة بشق الأنفس فيما لو سعى اليها بمجهوده هذا الطالب المتخرج المفعم بالأمل للمستقبل الزاهر، ولم ينتظر توصية تختصر عليه الطريق، فيفاجأ من أول يوم بذات العبارة «اثبت نفسك كي تستوعب متطلبات العمل وتتميز عن بقية الموظفين».

يستمر المرء في الكد والكدح ويدخل في دوامة الدورات التدريبية على أمل أن ينال المنصب المرموق، فإذا به يلهث بين الدوارات الأساسية، ثم الدورات الاشرافية، وصولا للقيادية التي تستمر لشهور وربما سنة، إلا أنه بعد انهاء ما يقارب أكثر من 50 دورة في اكثر من خمسة عشر سنة خدمة عمل، لا يزال يُطلب منه أن يثبت نفسه؟!

وعلى المقلب من الحياة الوظيفية، فهناك الحياة الاجتماعية التي تلازم المرء فيها ذات النغمة «اثبت نفسك»، فكثير من الشباب ورغم رغبتهم في الارتباط يجد الفرد فيهم نفسه ملزما بتوفير كل متطلبات الزواج من المهر إلى تجهيز مسكن الزوجية وحفلة عقد القران وسفر شهر العسل، وكيف للواحد منهم أن يفي بكل ذلك في بادئ مشواره!

لذا تجده يطرق أبواب المساعدات من الاهل قبل ان يلجأ للمصارف والاقتراض، فإذا غالبيتهم ينصحونه بتأجيل فكرة الارتباط والزواج حتى يكوّن ويثبت نفسه، وتضيع من عمره اجمل سنوات العمر في التكوين حتى يزهد في الفكرة برمتها.

والمرأة ليست ببعيدة عن مسألة اثبات النفس، بل ربما تكون عليها مضاعفة، عندما يُطلب منها ان «تتلحلح» كي تبرز نفسها بين قريناتها لتصطاد عريسا وتنأى بنفسها عن العنوسة وتفويت فرصة الانجاب، لأن المرأة خصوبتها ترتبط بسنوات محدودة فيما الرجل قدرته على ذلك حتى الممات. فتدخل الواحدة في سباق اثبات الذات وربما يتزعزع يقينها مع كثرة تلك الضغوط بأن المسألة مردها القضاء والقدر، وإن لازمها السعي.

واخلص في المقال بالتأكيد الى حقيقة مثبتة ليس للإنسان الا ما يسعى، فالمرء منا يسعى للكمال الاجتماعي والمادي والوظيفي ولكن عليه أن يتنبه بأن لا يضيع عمره في دوامة اثبات النفس للآخرين، ويملأ يقينه بأن ما سوف يناله في حياته له توقيت الهي مقدر سلفا، فترقيتك يا قارئي بقدر وزواجك بقدر وانجابك بقدر، فكل حياتنا تسير بأقدار مكتوبة وليس لنا في هذه الدنيا سوى السعي.