لا ينتبه كثيرون من مؤيدي السياسة الإيرانية في لبنان، بل لايعرفون، أن النخبة المسيحية اللبنانية كانت جزءا أساسيًا من حركة الإسقاط البطيء والعميق والمتدرِّج لكل الأمبراطورية العثمانية، هذه الحركة التي ضمّت، خصوصا في نصف القرن الأخير من عمر الأمبراطورية نخباً شامية وعراقية مسيحية ومسلمة. هذه النخب رغم كونها بقيت أقلية عددية خلقت جوا سياسيا تضافر الضعفُ الاقتصادي والعسكري للدولة العثمانية وضغطُ الدول العظمى المتعدد ليجعلا من نهاية الأمبراطورية حتميةً ستظهر مع مغامرة ضباط الاتحاد والترقي الكبرى بالدخول في الحرب العالمية الأولى.
قاتل الأتراك بشجاعة وقوة بل انتصروا في معركة استراتيجية أوجعت الأسطول الإنكليزي أيما وجع وهو الأسطول الذي كان يحاصر مضيق الدردنيل في غاليبولي. كانت معركة طويلة وشرسة عام 1915 سقط فيها عشرات آلاف القتلى من الجانبين وكادت تودي بالمستقبل السياسي لوزير الحرب ونستون تشرشل كما ساهمت حرب “مضيق” وادي الحجير في لبنان عام 2006 وحرب “مضيق” قطاع غزة عام 2008 في إنهاء المستقبل السياسي لرئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت.
باشرتُ بهذه المقدمة لا لأقول أن التاريخ سيتكرر بأشكاله السابقة ولكن لألفت النظر إلى أهمية لبنان في تحديد مصير “الأمبراطورية الإيرانية” الحالية رغم اختلاف ظروف ومعايير عديدة. لا يجب على أحد التقليل من هذه الأهمية مهما بدت المؤشرات معاكسةً خصوصا لدى المؤيدين للنفوذ الإيراني . وإذا لم يُظْهِر النظام الإيراني مقدرة على التكيّف مع الضغط النوعي المتزايد على أساليبه التوسعية، وهو الذي استخدم كل كفاءته الإيديولوجية والأمنية والسرية والبترودولارية والسياسية في توظيف واستنفاد إمكانيات الجماعة الشيعية اللبنانية (والجماعات الشيعيّة العربية)، فسيكون لبنان عاملا أساسيًا من عوامل انهيار طاقته على تحمّل الضغوط على مركز الإمبراطورية في طهران كما على أطرافها في اليمن والعراق ولبنان وسوريا وغزة.
لبنان وهو الذي فيه، في الظاهر، عناصر ضعف شديدة أهمها ضعف سلطة الدولة والتفتّت السياسي والطائفي، فيه بالمقابل من البنية الثقافية والتعليمية والحريات الاجتماعية المكرّسة بتقاليد أكثر من قرنين من التغلغل البنيوي الحداثي ما يجعل ابتلاعه الأمني السياسي مهمة أكبر من قدرة النظام الإيراني، ناهيك أن التطويع الثقافي غير مطروح أصلا بسبب الضحالة الثقافية بمعناها الإبداعي لأدوات النظام الإيراني ولو امتلكت كفاءات عالية في التنظيم السياسي والأمني والمالي.
لا غنى هنا عن بعض الكلام الفوق أو التحت سياسي.
رغم عراقة المجتمع الإيراني الوريث لدولة أمة كبيرة والمكتنز بإرث ثقافي مميز وبارز، هذه العراقة كما الإرث ليسا في نهاية الأمر عناصر قوة النظام الديني بل عناصر قوة المجتمع الفارسي العريق الذي يُطْبِق عليه النظام حتى لو استفاد النظام منهما. النظام الديني الذي تكرّس في لحظة انفلات المكوِّن الديني للمجتمع على سلطته الشاهنشاهية قبل أربعة عقود ونيف، هو الآن، وقد انقلبت المعايير يواجه الحالة العكسية: محاولة انفلات المجتمع بعناصره غير الدينية ضد تسلط القوى السلطوية الدينية. ليس كل ما هو عظيم في إيران عائدا للنظام الديني حتى لو حاول استثماره. كنتُ أقول دائما على سبيل الاستعارة أن صناعة السجاد العظيمة لم تولد مع الثورة الإيرانية بل قبلها بأكثر من ألف عام!!
هكذا هي العراقات الحيوية القومية والاجتماعية والثقافية لا يمكن لأي نظام توتاليتاري أن يديرها على الدوام وإلا لكانت “حمت” فرقة البولشوي، أعظمُ فرقة رقص باليه في العالم، والإرثُ الروائي والأدبي الروسي الهائل والموسيقى الكلاسيكية، الاتحادَ السوفياتي من السقوط إذا جاز لي هذا التعبير، فكيف عندما تتحول العناصر الثقافية إلى قوة مقاومة للنظام التوتاليتاري وعنصر مساهمة عميقاً في إسقاطه.
اشتريتُ عام 1980 من موسكو أسطوانات المجموعة الكاملة لكل الإرث السيمفوني الغربي والروسي بما يعادل عشرين دولارا أميركيًا بل أقل في سوق الروبل السوفياتي السوداء ولا زلت أحتفظ بها. كنتُ في دعوة صحافية إلى البلد. ولن أنسى الشعور الذي راودني يومها بأنني بهذه الثروة الموسيقية التي أحصل متكاملةً عليها، كنتُ “أسرق” الشعب الروسي. التوتاليتارية ترخِّص قيمةَ البلد الثقافية والاقتصادية حتى لو بَنَتْ أمبراطوريةً عسكرية. من حسن حظ الشعب الإيراني أن السجاد الإيراني لا زال ثمينا في الأسواق بسبب بعض الإجراءات الحمائية التي بلغت مرة حد مصادرة قطع سجاد غير مرخّص كان يحمله مستشار بارز لرئيس عربي حليف لإيران.حادثة شهيرة “بهدلت” المستشار أمام رئيسه. لكن من يعلم في مجرى البحث عن العملة الصعبة كم رخُص لا البترول الإيراني فقط بل السجاد أيضا؟ … ويعلم كثيرون.
لبنان الجامعة الأميركية والجامعة اليسوعية وبعض الجامعات الخاصة ومئات المدارس الرهبانية ومدارس البعثات الغربية وبعض مدارس المبادرات الخاصة ذات القيمة التعليمية النوعية ولبنان الدياسبورا الثقافية والعلمية والاقتصادية هو لبنان عصيٌ على القسر الأمني السياسي والثقافي. النجاح في استخدام ضعفه حتى “منزليا” أي بعناصره الداخلية لا يعني أنه يمكن تطويعه النهائي.
نعم، في الخلاصة، “نحن” نريد، (أي فئة واسعة من اللبنانيين،وأظن معظم اللبنانيين يريدون)، أن نكون على جدول أعمال المفاوضات الغربية الآتية مع إيران لا لنكون سلعة رخيصة للتفاوض، ولبنان قيمة غربية ك”قوة ناعمة” للغرب في المنطقة، ولكن أيضا لإقناع إيران بالحد من استهلاكنا. ، أيضا وأساساً لمنع إسرائيل بسبب إيران من استضعافنا وتدميرنا مرة أخرى.
أشم رائحة التاريخ في هذه المرحلة تختلط معها رائحة الجثث المقتولة أو المنهارة بالجوع والفقر والاهتراء الصحي والحياتي. على الذين يبدون وكأنهم لا يعيرون أهمية لسمعتهم كقتلة، أن يفكروا بالجزء الذي يفكّر فيه السياسيون الحقيقيون حين يجدون أنفسهم في دوامة العنف. تستطيع المشاريع النبيلة، أي السلام والاستقرار، وليس الخسيسة، أي الاستعداد الدائم للحرب الأهلية بإعلان ومن دون إعلان، أن ترفع من شأن السياسة بصفتها احتراما للآخرين وليس احتقارا لهم.
وإذا كانت القوة الأعلى للعنف، أو للقدرة على العنف في لبنان الحالي تنام مرتاحةً أو متكئةً على إرث مستمر لبعض أبشع السقوطات والنذالات المتراكمة مواقعَ وأشخاصاً ومن طائفيات مختلفة في حوالي أربعة عقود ونيّف، فهذا لا يعني استسهال التعبئة والتحريض. لأن من يوالي بنذالة يتخلّى بالنذالة نفسها.
يجب إعادة التذكير أن المجتمع اللبناني الذي يشاهد يوميا جرحَه أكثر اتساعاً ونزفاً، بات يملك طاقة لم ينتبه إليها صانعو السياسات الإقليمية كفايةً بعد، وهي أن الدياسبورا اللبنانية تصبح “أكثرية” داخلية وهي في الخارج وبالتالي فإن معادلة “دياسبورا الخارج مقابل رعاع الداخل” لن تنفع كثيرا في تضييق خيارات مقاومة الأمر الواقع.
وهذا كلام يخص من يحترف إدارة البؤس. والأمبراطوريات تسقط حين يلوح من وراء الممانعة المتعَبة ضباب كثيف مفاجئ وحامل لعناصر غير محسوبة.
النظام الدولي المنعوت بكل أنواع الميكيافيلية يتدخّل أحيانا ولو نادرا ليُنْصِف، ومن الغباء تجاهل طاقته على التلبية لأنه حتى التوظيف اللاأخلاقي لمعاناة شعوب سيصل في لحظة مؤاتية إلى أن يُحرِج الأقوياء. ليس من مثَلٍ دائمٍ على القوة السياسية الدولية للقوة العسكرية مثل إسرائيل، مع ذلك تجد الضحية الفلسطينية من يستمع لها. لبنان الآخذ بأن يكون نموذجاً للاستضعاف الداخلي ينضج كمشروع ضحية من نوع آخر. لا نقيم مقارنات بين الضحايا ولكن بين الأقوياء.
وفي مناسبة مرور الذكرى 42 لقيام الجمهورية الإسلامية نسأل:هل صانع القرار الإيراني يُشبه التوتاليتاريات، من حيث أنه إما يحتفظ بكل شيء أو يخسر كل شيء وبالتالي لا فكاك للبنان إلا على ضوء مصير “الأمبراطورية” كلها مع ما يعنيه ذلك من حتمية انتظار المزيد من المآسي الانهيارية؟
لدينا استحقاق تاريخي عائد هو المفاوضات الأميركية الإيرانية مع شريك عربي مباشر هذه المرة قد يجعلها مفاوضات 5+1+(1 سعودي)، ولا شك أن إيران تربط كل شيء بهذه المفاوضات. لبنان بهذا المعنى حيٌّ سياسياً بمعزل عن كيف سيتبلور موقعه.
التعليقات