جزيرة الكاتراز تلك الواقعة على سطح غيمة من صخر.. تطلّ من خلالها على أضواء مدينة سان فرانسيسكو الشهيرة غرب الولايات المتحدة الأميركية، حيث تبعد حوالي ميلاً وربع الميل منها، ويمكن الوصول إليها في رحلة قصيرة من خلال المعديات التي تقل السياح من مرفأ مخصص بالمدينة إلى مرفأ الجزيرة. تحمل تلك الهضبة الصخرية للمحيط أنباء العصاة الذين تمرّدوا على المألوف وقاتلوا الحياة جهارًا وقدرها أن يحمل تاريخها أبشع صور الحقد على الحرية.. فلم تعرف تلك الجزيرة إلا بسجنها المستحيل وترويض حتى الموت فيه، فكل السينمائيين والرسامين والشعراء وكتاب الحياة.. بنوا خيالاتهم ورؤاهم لذلك المكان الساحر على هيئة رجل عملاق مفتول العضلات يرتدي الموت إسورة في معصمه، تلك البقعة المعتمة في تاريخ الإنسانية تتميز جغرافياً بكونها مكانًا قاحلًا يندر فيه الغطاء النباتى والحيوانات بسبب قلة المياه العذبة والطبيعة الصخرية لتربة الجزيرة لكنها حتماً يضجُّ فيها الصدى بأصوات النورس البحرى التي تتغذى على الأسماك الآمنة، وبنعيق الغربان الجائعة دائماً لجيفِ الحياة! ما يميز الكاتراز عن بقية سجون التاريخ في العصر الحديث هو كونه نتج عن قراءة نفسية أمنية لا أمنية قانونية إذْ تتلخّص هذه القراءة في أن تتحول فكرة الهروب من السجن لدى السجين إلى فكرة مستحيلة وبالتالي يقيم فيه مروّضاً لحياة السجون والانضباط داخلها فضلاً عن كونه يخلق شعوراً قاسياً بالحرمان في نفسه حيث يكتشف بوجع من أنه مفتقر إلى الحرية، وهو على هذا البعد الضئيل من أضواء وصخب واحدة من أجمل مدن العالم، لهذا لم يكن سجناً لمدى الحياة، بل مكاناً مؤقتاً للمتمرّدين على لوائح السجون، أو لمن يحاولون الهرب، ويعدون مصدراً دائماً للشغب والفوضى، وبعد أن يتم ترويض جنونهم العاقل، وتقويم سلوكهم الفوضوي (وهو ما كان يستغرق في المتوسط ما بين ثماني إلى عشر سنوات)، يُنقلون بعدها إلى سجون أخرى ليكملوا مدّتهم ويستوفوا جزاءهم!

أُغلق هذا السجن النفسي الموحش في عام 1963م وتم تحويله إلى مزار سياحى، لكنه في ذاكرة الحريّة الشعبية ومآسي السجون لازال يمثل الصورة الأسطورية لسجن موحشٍ لم يتمكن أحد سجنائه من الهرب منه حياً، وكل مَن يقيم فيه يحيا أقسى معانى الوحشة والحرمان والتطلع الغريزي نحو الحرية، لهذا عاد دائماً إلى مسرح الذاكرة الشعبية من خلال خيالات السينمائيين وقدراتهم المدهشة في إضفاء طابع الأسطورة على ملامح المكان. الكاتراز ظهر مؤخراً بشكل كبير جداً بعد المسلسل الأميركي الشهير الذي حمل ذات الاسم وأنتج في عام 2011م وحمل أصداء شعبية واسعة جداً إذ اشتمل على قصة هروب 302 سجين، وهو العدد المسجل للهروب من هذا السجن على مدى تاريخه في التقاطة رؤيوية مدهشة، كذلك لا يمكن لمن شاهد فيلم «رجل طيور الكاتراز» المنتَج في عام 1962م «على سبيل المثال أن ينسى ذلك الأداء المدهش لـ»برت لانكستر» وهو يقوم بدور نزيل في سجن أعتى المجرمين وأكثرهم وحشيّة؛ يحيا فيه إنسانًا شديد التعلق بالطيور والرقة التي يستوجبها هذا التعلّق في رؤيا تناقضية غاية في الدهشة والإبداع، كذلك لا يستطيع أحد ظل يكتم حتى أنفاسه مع «كلينت إيستوود» في «الهروب من الكاتراز» عام 1979م» أن يمحوَ من خيالاته المتهيّجة بالرؤيا صورة هذا السجن النفسي المعقّد ولربما حملت تلك العبارة التي قالها الحارس المخيف للسجين الجديد في الفيلم: «إذا لم تطع قوانين المجتمع، يرسلوك إلى السجن، وإذا لم تطع قوانين السجن يرسلوك إلينا هنا».

أقول ربما حملت تلك العبارة تعويذة الحريّة ومآسي السجون في ذاكرتنا التي تنبش في التاريخ دائماً لتقع في كل مرة على فنون التوحّش عند الإنسان!