قليلون هم من يتذكرون «شافية أحمد» المغنية الكفيفة التي ورثت حلاوة الصوت عن والدها مقرئ ومرتل القرآن الشيخ أحمد محمد عبدالقادر الصائغ الذي نزح من السودان إلى الزقازيق في عشرينات القرن الماضي، حيث استقر واشتهر فيها بإجادة الترتيل، قبل أن ينتقل منها إلى القاهرة سعيًا وراء الرزق.

في القاهرة، وتحديدًا في حوش آدم، رزقه الله في 8 أبريل 1923 بطفلته الكفيفة التي ألحقها بكتاب الشيخ محمد فقيه بحي الأنتيكة، فنشأت على حفظ وترتيل القرآن، بل تعلمت أيضًا تفاسير آياته بسبب اصطحاب والدها لها إلى حلقات الذكر في الأزهر الشريف. غير انها في الوقت نفسه تولعت بالغناء بعد استماعها إلى الشيخ محمد فقيه وهو يقضي اوقات فراغه في ترديد أغاني أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وفتحية أحمد بصوته العذب.

اكتشف الشيخ محمد فقيه ولع تلميذته الصغيرة بالغناء فتعهدها بالرعاية ودرَّبها على مخارج الألفاظ الصحيحة، قبل أن يقودها إلى الموسيقار إبراهيم شفيق الذي قام بمنحها المزيد من التدريب والمران، بل قام شفيق أيضا بضمها إلى معهده الخاص (معهد الاتحاد الموسيقي) في سن الحادية عشرة، حيث زاملت فيه محمد قنديل وأنور منسي وفايد محمد فايد وحلمي فرج وأحمد الحفناوي. وحينما كبرت قليلاً ونضج صوتها تم ضمها إلى فرقة المعهد الغنائية.

لم يكن والدها موافقًا على أن تصبح ابنته مغنية، فقد كان يحلم أن تصبح مثله مرتلة للقرآن الكريم، لكن الشيخ محمد شفيق أقنعه في نهاية المطاف بأن معظم المطربين الكبار مثل سلامة حجازي وأم كلثوم بدأوا مسيرتهم بالإنشاد الديني. وهكذا راحت شافية تغني في الأفراح وتحييها مقابل 150 قرشًا للحفلة الواحدة.

في عام 1942 وقفت لأول مرة أمام ميكرفون الإذاعة المصرية لتؤدي وصلة مدتها ربع ساعة غنت خلالها طقطوقة «خبي وداري» وقصيدة «يا طائرًا فوق غصن بان» مقابل خمسة جنيهات. وتصادف غنائها مع وجود الموسيقار محمد القصبجي الذي انجذب إلى صوتها الدافئ فقرر رعايتها وتدريبها على أنماط جديدة من الغناء خارج إطار الموشحات الدينية. وبمرور الوقت، أثبتت مواهبها ورسخت أقدامها في عالم الغناء، فراح أجرها في الإذاعة يرتفع تدريجيًا حتى وصل إلى 125 جنيهًا عن الربع ساعة.

وبسبب إعاقتها البصرية وظفت شافية سكرتيرا ليساعدها على حفظ النصوص الغنائية، وفي حالات غيابه لأي سبب، كانت تشغل وقتها بأعمال التريكو. وفي عام 1943 اتصل بها المطرب محمد الكحلاوي وأقنعها بالغناء في السينما كي يستغل صوتها بطريقة الدوبلاج في أفلامه البدوية، فوافقت. وهكذا شاركت لأول مرة كصوت دون صورة في فيلم «البؤساء» الذي أخرجه كمال سليم في عام 1943 من بطولة عباس فارس وأمينة رزق.

مثلت مشاركتها بالصوت في فيلم البؤساء، الذي غنت فيه تانغو «ياروضة الأغصان» من ألحان فؤاد غصن، البداية لمسيرة طويلة لها في عالم السينما. ذلك أنها شاركت بالطريقة نفسها في 35 فيلمًا، لم تتوقف أثنائها إلا لبضع سنوات في خمسينات القرن العشرين بسبب مرض أصاب حنجرتها، لتتماثل إلى الشفاء وتعود إلى الغناء في الإذاعة والسينما في أواخر الخمسينات التي شهدت آخر مشاركاتها السينمائية وذلك حينما ظهر صوتها على صورة كوكا في فيلم سمراء سيناء الذي أخرجه نيازي مصطفى في عام 1959 من تمثيل كوكا ويحيى شاهين ومحمود المليجي وبرلنتي عبدالحميد ومحمد الدفراوي.

من الأفلام التي غنت فيها، عدا فيلمها الأول والأخير: «من الجاني» و«طاقية الإخفاء» في 1944، «قصة غرام» و«عنتر وعبلة» و«البني آدام» و«أحلاهم» في 1945، «غرام الشيوخ» و«راوية» و«دنيا» في 1946، «سلطانة الصحراء» و«التضحية الكبرى» وأبوحلموس«في 1947،» «فوق السحاب»و«صاحب العمارة» وأميرة الجزيرة«وليلى العامرية» في 1948،«ولدي» و«أسير العيون» و«سر الأميرة» و«العيش والملح» في 1949،«غرام بثينة» و«السيد البدوي» و«أرض الأبطال» في 1953،«الفارس الأسود»في 1954،«سيجارة وكأس» في 1955. هذا إضافة إلى قيامها بالغناء في مسرحية«سيد درويش»عام 1965.

والجدير بالذكر أن شافية لقبت بمطربة الزهور بسبب أدائها لعدد معتبر من الأغاني التي تتحدث عن الطبيعة والجناين والورود. فقد لحن لها علي فراج أغنيات:«ورد الجناين»،«الورد البنفسج والفل»،«ياعاشقين الورد»،«إنت الوحيد اللي في قلبي». واختصها زكريا أحمد بعدد من ألحانه مثل«الصبر سميري» و«أما كل ما أشوف الورد»و«تصبح على خير». وغنت من ألحان أحمد صدقي«الله على نور النبي» و«رؤية هلال رمضان» و«صلوا على بدر التمام»و«المولد النبوي»و«قيدوا الفوانيس»و«زرع البوادي جميل»و«يا ورد مالك من حُسنك». كما لحن لها ملحنون كبار آخرون مثل سيد مصطفى وسيد مكاوي.

في كل أعمالها الغنائية هذه لوحظ وجود قاسم مشترك بينها هو عبق الأجواء الشعبية والريفية والدينية بسبب نشأتها في بيئة شعبية زاخرة بروح الفطرة الدينية والتواشيح والإنشاد الديني، ناهيك عن الروح الوطنية التي تجلت في قيامها بأداء عدد من الأغاني الوطنية مثل:«رسالة من اسوان»، و«يا مصر نحن جنود الفدا»، و«نهضة التحرير».

من جهة أخرى، تعد شافية من نجوم الغناء الذين أثروا مكتبة الإذاعة المصرية بمجموعة من الصور والأوبريتات الغنائية، ومنها«نزهة»، و«قطر الندى»، و«فرحة رمضان»، و«سوق»، و«الليلة الكبيرة»، و«عرايس البحر»، و«الشيخ جمعة».

وشافية التي تزوجت مرتين قبل وفاتها في 9 أغسطس 1983 (الأولى من حسن زكي عبدالمنعم، والثانية من الملحن شفيق محمد، تم تكريمها بمنحها شهادة الجدارة والاستحقاق عام 1979 لما قدمته في سبيل الارتقاء بالفن الأصيل).