د. عبدالرحمن الطريري

5-7 minutes


التأمل في واقع الأمم، والشعوب، والتنوع، والاختلاف الذي يوجد فيما بينها، أو داخلها، أي بين مكوناتها يثير في الذهن كثيرا من التساؤلات بشأن أسباب هذا الاختلاف، والتباين، والآثار المترتبة عليه، من حيث التقدم، والتأخر في المستوى الحضري الذي يبلغه هذا المجتمع، أو ذاك. الملامح الظاهرة للاختلاف، والتنوع واضحة جلية تتمثل في الملبس، والحلي، والأواني، والأثاث، والألوان الشائعة، والمآكل، وتخطيط البيوت، واللغة، ونوع الحكايات، والقصص التي يتم تناقلها من جيل للآخر.
هذه الأمور، وغيرها مما هو ظاهر، أو خفي من الممكن أن نطلق عليها العناصر الثقافية، إلا أن ما يظهر من الثقافة، وما لا يظهر إلا بالملاحظة الدقيقة، والمستمرة لفترة طويلة من الزمن من قبل شخص نابه يسخر بصره، وأذنه، وعقله للملاحظة، والمقارنة والفرز لمعرفة كيف لمكونات الثقافة أن تؤثر في العقول، وتبرمجها لتعمل بما يشبه العمل الآلي في كل الظروف، وقد نجح المستشرقون الذين جابوا العالم العربي، وقطعوا الصحاري، والفيافي، وعاشوا مع القبائل، وزاروا المدن، والقرى، والأرياف في سبيل تحقيق الأهداف التي جاءوا من أجلها، وأهمها معرفة آلية التفكير التي يتمتع بها العربي، من حيث عمق التفكير، وسطحيته، وشمولية النظرة للأمور، أو جزئيتها، إضافة إلى معرفة العادات، والتقاليد، والمبادئ، والقيم التي تحكم علاقة الإنسان العربي بأخيه العربي، أو بالإنسان الأجنبي كمبدأ الثقة، وقيمة الكرم، والنخوة، وحماية المستجير، والوعد الشفهي وغيرها مما له تأثير في السلوك عموما.
وأنا أحضر لهذا المقال استوقفتني عبارة وردت في كتاب أعمدة الحكمة السبعة للورانس العرب، عميل المخابرات البريطانية، حيث يقول: "الآن أشعر براحة الضمير أنه لم يسفك دم جندي بريطاني واحد، حيث تمكنت من قيادة العرب بمئات الآلاف للوقوف مع بريطانيا في الحرب العالمية الأولى، وليموتوا في هذه الحرب، ولا يساوي التعهد الذي أعطيته للشريف حسين بإقامة دولة عربية واحدة الحبر الذي كتب به". بهذه اللغة المباشرة المتعجرفة يكشف أمرا لا يمكن المرور عليه بسطحية، بل يلزم قراءته بعمق، وبلا مواربة، أو خداع للنفس بإضفاء خصائص قد لا تكون متوافرة، مع أهمية مصارحة الذات لكشف عيوبها الناجمة عن ثقافة أسهمت في حينها في تكوين عقلية سطحية في تفكيرها، تطغى عليها الثقة الزائدة، مع غياب حيل التفكير المناسبة للمواقف التي يمر بها الفرد، إذ كيف يسوق لورانس مئات الآلاف من العرب ليموتوا في سبيل تحقيق أهداف بريطانيا؟.
المتأمل في الوضع العربي، والنزاعات الموجودة فيه، والنيران المشتعلة نتيجة ظروف داخلية، وتدخلات خارجية تجعلنا نتساءل هل لا تزال الثقافة البسيطة في نظرتها، وتحليلها للأمور قائمة، وتؤثر في كيفية تعاملنا مع الآخر، حتى نبدو أننا لم نستفد من التجارب المرة التي مرت بها أمتنا، ذلك أن الأخبار تنقل بشكل يومي تعلقنا بما يسمى المجتمع الدولي، والوعود التي يعطيها مسؤولو الأمم المتحدة، أو المسؤولون الغربيون الساعون لتحقيق أهداف دولهم، واستمرار منطقتنا في حالة اشتعال مستمر لضمان المحافظة على مصالحهم الاقتصادية، والسياسية، واللوجستية حيث البحار، والأنهار، والموانئ، والموقع الاستراتيجي بين ثلاث قارات.
الوضع غير الطبيعي في المنطقة العربية يستوجب مراجعة الثقافة، وغربلتها، والتخلص من المكونات التسطيحية للأمور، ولا عيب في المراجعة للمحافظة على إيراداتنا، والسعي للاستقرار، والأمن، ولعل ما يوجد من نقلات معرفية، وتقنية هائلة على مستوى العالم تسهم في وعينا لتجنب الخداع، والوعود المعسولة التي تقدم بألفاظ ظاهرها الرحمة، وداخلها العذاب، والشقاء في عالم يحكمه رأسمالية شرسة لا مكان فيها للقيم، والضعفاء بل القوة هي السلاح الأوحد.
سيادة التفكير الرغبوي لدينا تجعلنا نغفل معطيات الواقع، وما تتطلبه من جهود، وتخطيط بعيد المدى تكون ملامحه العمل، وفق مبدأ الأولويات، وتقديم الأهم على المهم، ورصد الإمكانات المادية، والبشرية، ذات التأهيل العالي في كل المجالات، حتى لا تكون طريقة تفكيرنا امتدادا لتلك الفترة واستمرار المآسي لا من غربلة، وتمحيص مكونات الثقافة لنصنع آليات تفكير أفضل.