أصبحت منطقة الشرق الأوسط في العقدين الأخيرين ساحة مفتوحة لعشرات المنظمات المسلحة التي لا تخضع لسلطات الدول الشرعية. وبرغم أن هذه الميليشيات فرضت نفسها على المشهد السياسي وحركة المجتمعات بقوة السلاح، إلا أنها صارت بقدرة قادر، وفي غفلة من الزمن، تشارك أحياناً في الحكومات المحلية عبر وزراء مرتبطين بقادتها مباشرة، لا بسلطة مجلس الوزراء في الدولة الحاضنة لها، وتجلس في أحايين كثيرة على طاولة المفاوضات الدولية ممثلة للبلد المسحوق تحت قبضتها الحديدية.
تشكلت العديد من ميليشيات الشرق الأوسط المسلحة، إما نتيجة فراغ أمني مفاجئ في دولة ما، صاحبه عدم قدرة هذه الدولة على بسط يدها على كامل ترابها الوطني. وإما نتيجة هندسة استخباراتية معقدة يصعب معها الوصول لبصمتها الوراثية، التي تحدد أصلها ومنابتها الأولى. فيما تشكل البعض منها بفعل دول معينة في المنطقة، تحت مظلة الطائفية والتبعية المعلنة.
إيران وجدت في النوع الثالث من هذه المنظمات يداً تحكم بها بعض دول المنطقة من بعيد من غير الحاجة للدخول في تفاصيل «الاحتلال» وإشكالاته، ومآلاته المعروفة المتمثلة في اضمحلاله وانقشاعه طال الزمن أو قصر. ففي لبنان والعراق على سبيل المثال لا تنوي إيران في الوقت الحالي ولا أظنها ستفعل في المستقبل، دفع شريكيها المفضلين «حزب الله» و«الحشد الشعبي» إلى الانقضاض على الحكم والانفراد به، لأنها تعلم تمام العلم أن المعارضة الشعبية الوطنية التي ستُخلق إثر ذلك ستتمكن في وقت ليس بالطويل من استعادة البلاد، وإقصاء كل المتعلقات الفارسية. لذلك فمن استراتيجيات الوجود الإيراني في هاتين الدولتين كما نرى، المشاركة في مؤسسة الحكم لا قيادتها، وتفعيل الأدوات التي تضمن لها الضغط المستمر على مفاصل الحكومة المختلفة، وإنهاك الدولة بهدف فصلها عن واقعها العربي، مع إبقاء خطوط الحلول ومسالك انفراج الأوضاع مفتوحة مع الدولة الراعية، لضمان احتواء الشعب سياسياً واقتصادياً، وتحوير عقله الجمعي باتجاه طهران، كما حدث مؤخراً حينما تعهد «حسن نصرالله» بحل مشكلة نقص الوقود في لبنان عبر الرعاية الإيرانية!
إيران حريصة على بقاء الميليشيات المسلحة خارج سلطة الدولة المركزية في المنطقة العربية. هذا أمر معلوم ومفهوم، لكن الأمر الذي يبدو أنه ما زال خارج حسابات «التحليل السياسي» هو استمرار «الدول الغربية»، وعلى رأسها أميركا في التعامل مع المنظمات الإرهابية في المنطقة، وكأنها تعبر عن صوت الشعوب في مواجهة سلطات مستبدة وحكومات ديكتاتورية.
فرنسا، الدولة الراعية للبنان، تعرف أن «حزب الله» هو سبب الأزمة اللبنانية، وتعرف أكثر أن تلويحها «بإشارة دعم صغيرة»، منها للفريق المسيحي المتحالف الآن مع «حزب الله»، ستجعله يلبس ثوب وطنيته مرة أخرى ويفكر في لبنان لا إيران. لكنها لا تفعل!
وأميركا التي تتحدث منذ أشهر عن ترميم تحالفاتها السابقة، والعمل على استعادة قوتها الدولية عبر إبداء حسن النية لأصدقائها، ما زالت تعد «ميليشيا الحوثي» المخلوقة في «معامل طهران» مكوناً يمنياً له الحق في أن يفرض على الجموع اليمنية نظريته الإمامية المتطرفة التي تلحقه فرعاً شرعياً بإيران!
وأما بريطانيا وألمانيا وكندا وبقية الدول الغربية، فهي تراقب وتترصد وتتحفز، وتضع فرقاء الشرق الأوسط في كفتين متوازنتين بانتظار الحصول على مكاسب من هذا الطرف أو ذاك.
كلنا نعرف توجهات إيران في المنطقة، وبقي أن نعرف ونفهم بالضبط ما هي توجهات الدول الغربية من الصراعات في الشرق الأوسط، وإلى ماذا تتطلع في العشرين أو الثلاثين عاماً القادمة.
وأظن أن الميليشيات المسلحة التي ساهمت في تقسيم السودان، والرعاية الدولية التي أحيطت بها منذ ثمانينيات القرن الماضي ستعطينا مدخل إجابة واسعاً لما يحصل في المنطقة اليوم.
* كاتب سعودي