مع عودة النشاط الإرهابي في أنحاء كثيرة من العالم، ومسلسل التنظيمات المسلحة الذي لم يتوقف، لكنه لم يعد مثيراً للإعلام أو تصدر نشرات الأخبار بحكم طغيان المحتوى لجائحة «كورونا» والأزمات السياسية، إلا أن المسألة على مستوى مراكز الأبحاث وخزانات التفكير حاضرة وبقوة، خصوصاً مع دخول روسيا على الخط، وحرص بوتين على إعادة تموضع بلاده كرقم صعب يزاحم الولايات المتحدة حول شرعية الحرب على الإرهاب، بعد انكفاء الأخيرة عن التدخل في المنطقة.

في شهر يونيو (حزيران) تم تصفية المتحدث العسكري باسم «هيئة تحرير الشام» أبو خالد الشامي، في قرية عبلين السورية. العملية نفذت عبر ضربة جوية روسية قتلت الشخصية المهمة جداً ومعه عشرات من الكوادر، وكانت الرسالة واضحة من روسيا حينها، وهي أنها التي ورثت مسألة استهداف التنظيمات المسلحة، ولو بشكل متحيز تبعاً لمشروعها ومشروع حلفائها، وهو ما ألقى بظلاله على ردة الفعل الأميركية الباردة خارج نطاق مراكز الأبحاث، حيث السياسة اليومية، ومحاولة إدارة بايدن إعادة تعريف نفسها في ملفات بعيدة عن الحرب على الإرهاب، جوهر السياسة الخارجية في المنطقة، منذ ضربات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، ومع ذلك فإن عدم انتقاد روسيا في ضرباتها يمكن فهمه في سياق أنها تدرك جيداً أن تنظيم «هيئة تحرير الشام» مصنف على لائحة الإرهاب الأميركية، وإن كان هو التنظيم الأكثر نشاطاً في منطقة إدلب، وهو ما يلقي بأزمة أخرى تتصل بتوقف عمل المساعدات الإنسانية في مناطق التوتر التي تستهدفها روسيا، في ظل تراجع الاهتمام بتلك المناطق أو حتى إعادة تقييم لمستوى التهديدات الإرهابية وعودة المقاتلين الأجانب.

وحسب ورقة مهمة كتبها البرفسور هارون زييلين، وهو من ألمع الباحثين في ملف مكافحة الإرهاب، فإن الأمر يتجاوز مسألة تصنيف التنظيمات المسلحة الإرهابية واستهدافها إلى الرسائل السياسية الكامنة وراء هذا النوع من التحركات الروسية، في ظل اجتماع مرتقب بين بوتين وبايدن، فالتداعيات بحسب الورقة على سياسة الولايات المتحدة، كبيرة، حتى لو لم تكن «هيئة تحرير الشام» من حلفائها، إلا أن الرسالة واضحة من بوتين الذي يعاني على مستوى الصورة السياسة لدى إعلام الإدارة الجديدة ومحاصرتها له بحملات ضخمة على طريقة كشف الحساب الحقوقية، لكن رده جاء في هذه الضربة النوعية ليقول إنها من يتحكم في مستقبل سوريا، وإنه القادر بحسب توصيف زيلين على استعراض العضلات وقت ما يشاء.

التحرك الروسي وانبعاث الإرهاب كل مرة في مناطق مختلفة من العالم، فضلاً عن قدرة التنظيمات المسلحة والعقل الإرهابي على التجدد واستقطاب كوادره من جديد، والانتقال السلس إلى فضاءات جديدة على الأرض، وسيطرة ضخمة على مستوى الفضاء الرقمي رغم كل الإجراءات الأمنية، ستظل مسألة مستقبل التطرف والإرهاب في المنطقة ملحة «باقية وتمدد»، حتى لو غاب هذا التنظيم أو ذلك، حيث علمتنا معركة الإرهاب الطويلة أن بقاء الأزمات السياسية والانسحاب من المسؤولية العسكرية والقانونية، وترك مناطق التوتر في كل المواقع لصراع بين قوى دولية تسعى إلى الهيمنة بحجة مكافحة الإرهاب، جعل من معضلة التنظيمات المسلحة وتجدد الإرهاب أشبه برأس مال سياسي وحجة بقاء أكثر من كونه معضلة عالمية تقتضي البحث عن جذوره وأسبابه والحلول التي يجب أن تكون مبنية على تضافر المؤسسات الدولية، وبرامج إعادة البناء والتأهيل وحرب الأفكار، وليس مجرد تتبع لقادة الإرهاب ورموزه وتضخيمهم باعتبارهم المعضلة الأولى والأخيرة، في حين أن بقاء الأفكار المتطرفة بالضرورة ينتج شخصيات يمكن أن تأخذ طريقها إلى القيادة بسهولة، مع توافر الإمكانات والظروف.

عدم الإسراع في تجاوز مسألة التعامل الظرفي المؤقت لمعضلة الإرهاب ومسبباته في مناطق التوتر، خصوصاً في البلدان التي لم تحظَ بمعالجة شاملة بين الدول الكبرى مع بقاء خزان المظلومية المجتمعية، واحدة من الثغرات الكبرى التي تنفذ منها فكرة العودة إلى القتال وإعادة التجنيد، خصوصاً مع تعطل العمل الإنساني، فغالب المجتمعات التي طالتها مسألة الصراع بين العقل الإرهابي لم تكتسب مناعة حتى مع التفوق الأمني، بخاصة على طريقة المقاربة الغربية التي تستهدف مجرد الرموز والشخصيات الكبرى، ثم تعلن انتصارها وتنحسب من دون أن تمهد لخطابات إنقاذ تنموية وثقافية وفكرية أو مشاريع إعادة إعمار وتأهيل ضد صدمة و«تروما» تلك المجتمعات، ومع ما عاشته من تأثيرات ضخمة على أسلوب الحياة، في ظل تسلط التنظيمات الإرهابية باسم الخلافة!

قبل خمس سنوات في قمة نشاط «داعش» في مناطق التوتر والمماحكة الروسية الأميركية نصح، حسب أندرو جيه. تابلر، المتخصص في الملف السوري والخبير الأمني الأميركي، بأنه يجب الوصول لمقاربة من كافة الأشكال لضمان عدم تجدد الإرهاب، وقال بالحرف الواحد: «إذا لم تعمل الولايات المتحدة على حل القضايا المرتبطة بالشرق الأوسط، فنحن مقبلون على أزمة استراتيجية كبيرة»، مؤكداً أن «المعضلة المشكلة مع التنظيمات المسلحة هي أن الولايات المتحدة كأمة لا تبحث في العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية المسببة لتطرف مئات الآلاف من الرجال والنساء في جميع أنحاء العالم!»، ما ذكره الخبير تابلر في مقاربة الملف السوري يمكن أن نقوله على كل المناطق التي لامستها المقاربة الأميركية في الحرب على الإرهاب وأفغانستان، وتجدد العود الأبدي للتطرف أكبر مثال صارخ يؤكد بقاء الخلل!