في سلسلة جرائم نكراء هزت المجتمع الأمريكي في الستينات من القرن الماضي، تملكت الحيرة كثيراً العديد من الأجهزة الأمنية الأمريكية، التي حاولت جاهدة بكل الطرق التوصل إلى مرتكبيها والقبض عليهم، غير أنها لم تتمكن من ذلك وعلى نحو مثير للذهول، فعلى الرغم من تكريس الكثير من كبار المحققين جهودهم ووقتهم لتعقب الجاني، إلا أن كافة جهودهم قد باءت بالفشل الذريع، وكل ما توصل إليه المحققون هو أن هناك قاتلاً واحداً يقف خلف تلك الجرائم التي أودت بحياة عدد من الضحايا الأبرياء، ممن كان يتصيدهم من داخل الحدائق أو المتنزهات العامة، أو عبر الطرق السريعة.

لعل ما أثار حيرة أجهزة الأمن هو أن القاتل كان يقوم بالتبليغ عن الجرائم بنفسه، وكان يقوم بالتبليغ عنها إما من خلال هاتف عمومي، أو من خلال إرساله للعديد من الرسائل المشفرة لهم والممهورة باسمه الحركي «زودياك»، ولعله من المثير تماماً ألا تتمكن الشرطة الأمريكية حتى كتابة هذه السطور من القبض على القاتل، وقد ظلت قضية زودياك قابعة في عمق الذاكرة لغالبية مواطني الولايات المتحدة لفترة زمنية طويلة، الأمر الذي حدا بكبار منتجي هوليوود لإنتاج فيلم عام 2007 عن هذا القاتل بعنوان يحمل توقيعه «زودياك».

لطالما احتلت الأفلام التي تتناول القضايا الأمنية مكانة بارزة في قائمة تصنيفات الأعمال الفنية بصورة عامة، وقد اعتاد المنتجون التعاون مع العديد من الجهات الأمنية كالمباحث الفيدرالية وغيرها لإنتاج أفلام تتعرض للجرائم التي عصفت بالمجتمع الأمريكي على مدار تاريخه الحديث، فهناك العشرات بل والمئات من تلك الأفلام التي عرضت بالتفصيل وقائع تلك الجرائم بقدر كبير من التشويق والإثارة منذ بداية ارتكابها وانتهاء بمحاكمة مرتكبيها.

كما أن هناك العشرات من الأفلام الوثائقية التي سجلت مئات الجرائم بالمجتمع الأمريكي، منها سلسلة ملفات FBI، التحريون الجنائيون، والملفات الجنائية وغيرها، ومن المؤكد أن هذا النوع من الأعمال الفنية يخدم العديد من الأهداف، فبخلاف تغذية روافد السينما بأحداث درامية قوية، تنطوي تلك الأعمال على أهداف توعوية ودروس مستفادة تحول دون وقوع المزيد من تلك الأحداث المأساوية مرة أخرى مستقبلاً.

من الملاحظ أن إحدى الطفرات المهمة التي بدأت المملكة تشهدها مؤخراً هي النمو الإيجابي لقطاع الإنتاج الدرامي بها، ويعد مسلسل «رشاش» الذي أنتجته MBC إحدى العلامات البارزة المعبرة عن مرحلة النمو تلك، فعلى الرغم من أن العمل يحكي قصة واقعية حول قاطع طريق قام بممارسة العديد من الأنشطة الإجرامية وذلك في ثمانينات القرن الماضي، إلا أن هذا العمل الفني يتجاوز بطبيعته الأحداث الواقعية، ويلقي بمزيد من الضوء على العديد من الأبعاد المتشابكة المتعلقة بتلك الجرائم، فمن المؤكد أن هذا العمل الفني لا ينبش في القبور ولا يستدعي شخصيات من التاريخ لمجرد التسلية كما يعتقد البعض، فالعمل الدرامي في جوهره عمل فني، يستند في تكوينه على فنياته وأدواته الدرامية أولاً وأخيراً، وهو يفصح عن العديد من الإمكانيات الواعدة والقدرات التمثيلية الكبيرة التي لم تأخذ حظها من الظهور والنقد بعد في الساحة الفنية السعودية، ويثبت ويبرهن بوضوح على أن الدراما السعودية لديها جميع الإمكانيات والمؤهلات التي تمكنها من الريادة والتقدم في هذا المجال الفني ذي الشعبية الجماهيرية الضخمة.

من المعروف تماماً أن الأعمال الفنية مثل «رشاش» وغيرها ترسخ المفاهيم بصورة عميقة في وجدان الجميع، كباراً وشباباً وصغاراً، فالأدوات الدرامية تستطيع التغلغل في وجدان الجمهور أضعاف ما تستطيع فعله وسائل التلقين المباشرة أيا كانت صورتها أو طبيعتها، فالمشاهد يتفاعل مع الأحداث ويتأثر بها، يتعاطف مع الشخصيات التي تستحق التعاطف وينفر من العناصر المؤذية، تثير الأعمال الدرامية مخيلته وتستثير ذهنه وتدفعه لإعادة التفكير مراراً وتكراراً في الأحداث التي يتابع وقائعها طيلة مدة عرض العمل الفني، بعكس التقرير المباشر أو الخبر الصحفي أو التحقيق الإخباري.

الأعمال الفنية في جوهرها ذات طابع توعوي، وهي ذراع ثقافية للدولة يتم من خلاله نشر الأفكار الصالحة واقتلاع الأخرى الفاسدة أو المؤذية، والكثير من شعوب العالم فطنت للدور المهم الذي تقوم به الدراما فأولته كل اهتمامها ورعايتها، وبهذا فإن المنتج الدرامي يعد منتجا ثقافيا بالدرجة الأولى، وأعتقد من منظور شخصي أنه يتعين علينا دعم القطاع الفني في المملكة وتشجيعه، ليصبح أداة جديدة فعالة تخدم نفس أهدافنا الوطنية ولكن من خلال منهجية مختلفة، لا أن تصبح منابرنا الإعلامية معول هدم يهوي بكل قوته على أي نبتة فنية تسعى جاهدة لأن تشق طريقها للإزهار، وليتنا نبدأ بتقييم الأعمال الفنية بأدواتها الإبداعية بعيداً عن الأفكار المتشددة التي لا ترغب إلا في أن تظل المملكة تراوح مكانها دون تقدم، ولا يحلو لها سوى تطبيق سياسة النقض والهدم كغاية بلا هدف واضح.