هل بدأت الثورة المصرية التي تحل ذكراها هذا الشهر بالسيطرة المباشرة على الحكم بقيادة الجنرال محمد نجيب في 23 يوليو (تموز) 1952؟ أم بدأت شرارتها عندما قدم محمد نجيب استقالته كضابط بالحرس الملكي أثناء أزمة 4 فبراير (شباط) عام 1942 والتي حاول فيها الإنجليز إجبار الملك فاروق على التخلي عن العرش إذا لم يعين النحاس باشا رئيساً للوزراء؟
لكي تتضح الفكرة والربط لا بد من تلخيص سريع لما جرى في 4 فبراير 1942 عندما جاء السفير البريطاني السير مايلز لامبسون إلى أحمد حسنين باشا رئيس الديوان وسلمه رسالة تهديد واضحة للملك فاروق بالتنازل عن العرش، وكانت الاستقالة مكتوبة وما على الملك إلا توقيعها، وكان يوماً مشهوداً في التاريخ المصري الحديث، حيث حاصرت الدبابات البريطانية قصر عابدين، وكاد الملك يوقع على التخلي عن العرش لولا تدخل حسنين باشا والإشارة عليه بعودة النحاس، وربما تلك كانت المحاولة الأولى للإطاحة بفاروق، محاولة فشلت في 1942 ونجحت بعدها بعشر سنوات مع حركة الجيش.
المحاولة الأولى كانت بتدخل خارجي مباشر بتأثير ظروف الحرب العالمية الثانية ووجود الجنرال الألماني روميل في العلمين، وهناك إشارات تاريخية إلى أن المحاولة الثانية للإطاحة بفاروق والتي نجحت في 1952 كان فيها تدخل خارجي أيضاً عندما حلت الإمبراطورية الأميركية محل الإمبراطورية الإنجليزية، وتلك نقطة محل جدل يطول فيها الحديث.
النقطة الأهم بالنسبة لهذا المقال هي أن أزمة حصار قصر عابدين 1942 التي كانت بمثابة إهانة وطنية دفعت بالضابط الشاب محمد نجيب إلى الاستقالة من الحرس الملكي لأنه لم يكن قادراً على حماية ملكه الذي أقسم له الولاء، ورفضت وقتها الاستقالة، ولكن هذه الاستقالة هي التي أدت إلى صعود نجم محمد نجيب خلال التسع سنوات التالية التي أهلته ليكون في عام 1951 مرشحاً للفوز برئاسة مجلس إدارة نادي الضباط، متفوقاً على منافسه حسين سري عامر قائد سلاح الحدود ومرشح الملك لرئاسة النادي. بالطبع هناك من يرى أن تنظيم الضباط الأحرار ووقوفه إلى جوار نجيب هو الذي أدى إلى فوزه بالانتخابات، لكن الحقيقة هي أن نجيب كان النجم في تلك الفترة، ولولا نجوميته لما التف حوله صغار الضباط الذين عرفوا فيما بعد بتنظيم الضباط الأحرار. نجيب كان (الشيخ) وصغار الضباط كانوا (المريدين).
وكما حدث للملك فاروق، فقد مر الجنرال محمد نجيب أيضاً بمحاولتين للإطاحة به، فشلت الأولى ونجحت الثانية.
إن إعادة قراءة محمد نجيب ليس من خلال مذكراته الشخصية وحدها، وإنما من خلال سياقات أوسع هي ضرورة لمعرفة ما جرى وكيف وصلنا إلى هنا. من زاوية نظري، أرى أن ثورة 1952 بدأت في عام 1942، ولكن هذه القراءة تحتاج إلى من يشرحها ويكشف ما بها من عوار، كي تتضح الرؤية، فأساس أي نظرية هو قبولها وخضوعها أيضاً لمنهج تكذيبها (falsification).
العشر سنوات في الفترة من أزمة 1942 حتى 1952 تحتاج إلى قراءة متأنية لمعرفة المحطات التاريخية الصغيرة التي أوصلت المجتمع المصري إلى لحظة خروج فاروق من مصر وتسليم الحكم لابنه أحمد فؤاد تحت الوصاية. واضح من الأحداث أن النظام الجديد لم تكن لديه القدرة على مواجهة المجتمع بنهاية قاطعة لحكم أسرة محمد علي وتدرج في الأمر، حتى تحولت حركة الجيش المباركة، بتعبير سيد قطب، إلى ثورة بحكم التداول الإعلامي وبعض السياسات التي كانت رشوة للشعب.
كتبت في العام الماضي عن ضرورة مراجعة تاريخ حركة 1952، واليوم أعيد الدعوة خصوصاً أن هناك سرديات مختلفة من مجموعة الضباط الأحرار أنفسهم. أول متطلبات هذه الدعوة أن تحدث في سياق حر، وهذا أمر صعب المنال، والثاني ضرورة العقلية النقدية كواحدة من أدوات المراجعة، وهذه تحتاج إلى وقت كي تنضج. وللحديث بقية.