كان الرئيس جمال عبد الناصر وبعدما كان حسم الأمر حول مَن هو الرجل الأول في ثورة 23 يوليو (تموز)، واضعاً الرئيس الأول لمصر الجمهورية اللواء محمد نجيب في إقامة جبرية قاسية دامت طوال سنوات الحقبة الناصرية إلى أن أعاد العهد الساداتي ثم عهد الرئيس حسني مبارك الاعتبار المعنوي إليه، يتطلع إلى علاقة طيبة مع الولايات المتحدة وبحيث تبدأ الإدارة الأميركية بتسليح الجيش المصري الذي كان زمنذاك يفتقد إلى أنواع متقدمة من السلاح. وفي حينه كان عبد الناصر صاحب رؤية وطنية مصرية، أي ما معناه أن القضية الفلسطينية والعروبة ومشاريع الوحدة، هذه عموماً على هامش رؤيته تلك... إلى حين.
وحيث إنه لا بد من الاستحواذ على التفاف السبعة عشر مليوناً الذين هم عدد سكان مصر زمنذاك حول الثورة، فإنه بدأ يُكثر من الكلام في شأن المشاريع والتصنيع والإصلاح الزراعي بعدما كان ألهب المشاعر بعبارات كانت بمثابة المؤشر لاحقاً إلى قرار تأميم قناة السويس.
ما ارتآه عبد الناصر لبناء علاقة مع الولايات المتحدة يحقق من خلالها الحصول على أنواع من السلاح، هو طرْح فكرة تمويل أميركي لبعض المشاريع، بل حتى المشاركة في تمويل السد العالي في أسوان وكان مجرد بند في لائحة مشاريع وخطوات يتطلع عبد الناصر إلى تحقيقها.
حتى الآن عبد الناصر لا يتحدث في الاشتراكية التي كان مجرد ذِكْرها على لسان حاكم تزعج أميركا، وتعتبر أن من ينطق اشتراكية يؤسِّس العداوة مع أميركا، ويكون بالتالي جرماً في الكوكب الماركسي السوفياتي – الصيني، أو على مقربة منه.
لم تكن الإدارة الأميركية عند حُسْن ظن عبد الناصر وتطلعاته إلى التعاون معها. لم يوظِّف وزير الخارجية جون فوستر دالاس الفرصة ولم يكسب عبد الناصر الرهان. وهنا يبدأ في تاريخ المنطقة العربية دخول الاتحاد السوفياتي مدعواً وليس غازياً إلى مصر وتبدأ حقبة رسمت خرائط وفواجع وصدمات شخصية ووطنية. فقد وضع عبد الناصر الأوراق بما حوته من رغبات ومطالب تسليحية واقتصادية بين أيدي الكرملين الخروتشوفي الذي لبّى بطريقة غير مباشرة مطالب التسليح فلم يقدمه مباشرة كي لا يجن جنون أميركا وإنما أوكل الأمر إلى تشيكوسلوفاكيا، وكأنما لا يلغي ذلك أن السلاح لديها هو من الاتحاد السوفياتي. ولبى وعلى الملأ الدولي من القطب إلى القطب الطلبات ذات الطابع الاقتصادي والصناعي... إنما بقطرات. وهكذا باتت مصر في الفضاء السوفياتي وبات النهج السياسي المصري في بعض ملامحه من جانب آخر شرياناً سوفياتي الهوى في قلب العالم العربي من خلال كبرى دوله.
مَن المستفيد في هذه الصفقة الاضطرارية؟ إذا قسنا الأمور بخواتيمها فإن الطرفيْن خرجاً من سوق الرهان مثخني الخيبات. عندما احتاجت مصر إلى وقفة سوفياتية معها بمثل وقفة أميركا مع إسرائيل فإن الكرملين البريجنيفي لم يلبِ ولم يعتذر واكتفى بالإكثار من التطمينات المرفقة بمساعدة خجولة اندرجت تحت بند المساعدة في إزالة آثار العدوان. ولمجرد أن قرأت الترويكا بكثير من التعمق ما حواه تقرير الطبيب السوفياتي عن صحة عبد الناصر فإن القرار الذي اتخذ ضمناً هو أن الرئيس المصري على مقربة من نقطة الرحيل؛ ولذا لا بد من الاستعداد لمرحلة ما بعد الرئيس الصديق الذي على رغم مكايدة السوفيات بالاتجاه الذي سلكه ويتمثل بما سمي «حركة عدم الانحياز» يساوي مفهوم الحياد عند قادتها التاريخيين نهرو وعبد الناصر وتيتو بين أميركا والاتحاد السوفياتي، وهذا في نظر الكرملين حُكْم ظالم، فإنه حقق للاتحاد السوفياتي حضوراً استراتيجياً بالغ الأهمية براً وبحراً وجواً، فقد بات الأسطول الحربي السوفياتي ضيفاً مستحباً رسوه من جانب مصر في مياه كل من البحر الأحمر والبحر المتوسط؟
برحيل عبد الناصر وضع الكرملين على الطاولة الملف الوقائي، ليس للعلاقة مع مصر فقط، وإنما للوجود الاستراتيجي البالغ الأهمية له في العالم العربي. جاء اليكسي كوسيغين ثاني الترويكا يعزي باسم الأول بريجنيف الذي لم يزر مصر على نحو ما فعل خروشوف ووقف متباهياً في أسوان يقطع مع عبد الناصر شريط المرحلة المتقدمة من إنشاء «الهرم المائي» أي السد العالي. اكتفى بتقديم العزاء وغادر بدهشة غير مألوفة في التشييع الملاييني لعبد الناصر؛ إذ كان تشييع بطل كأنما انتصر في الحرب وفي خيارات ثماني عشرة سنة عاصفة، وليس من هو رمز فاجعة عربية (حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1967) ارتبك الأمر في تصنيفها هل هي هزيمة أم نكسة.
لمجرد أن استقر أمر التوريث على أنور السادات بحكم أنه كان نائب الرئيس عبد الناصر، أو بحكم اعتبارات وإيحاءات من صانعي القرارات الدولية المصيرية، سارع الكرملين إلى إيفاد ثالثه بودغورني ومعه نص مكتمل الصياغة لمعاهدة تتضمن في نظر واضعيها ديمومة مستقرة للعلاقة المصيرية بكل أغصان شجرة الوجود السوفياتي في مصر سياسياً وعسكرياً وخبراء وتمثيلاً دبلوماسياً بالدرجة الرفيعة المقام حزبياً وأمنياً المتبعة بين الكرملين وعواصم النهج الماركسي في دول أوروبا الشرقية.
اللافت للانتباه أن المعاهدة خلت من أخْذ ورد حولها. وضع الرئيس السادات توقيعه يوم 27 مايو (أيار) 1974 ومن دون أي تأفف أو طلب تعديل. ولم ينعكس أي ضيق على قسمات وجهه. هكذا أظهرت اللقطات المصورة. لم يفعل الرئيس السادات ذلك مضطراً ومحتبساً أنفاس الاعتراض أو التحفظ. أثبتت التطورات لاحقاً أنه وقَّع المعاهدة بقلم إلغائها لاحقاً وعلى وجه السرعة. ولقد فعل.
مناسبة هذا الاستحضار أن الحكم السوداني يعيش منذ بعض الوقت انشغال بال في شأن حالة مع كرملين بوتين قريبة الشبه بحالة الحُكْم الساداتي مع كرملين بريجنيف. هل سيقتبس أهل الحُكْم السوداني روحية الأسلوب الساداتي ويهدأ البال تبعاً لذلك؟ للحديث والإجابة بقية.