نحاول أن نهرب من التاريخ (الفردي أو الجمعي) لكنه يدركنا في النهاية، إذْ لا مهرب أمام التاريخ الذي لا ينسى مهما بدا مستسلماً لقوى الساعة.. ولن يكون كذلك غداً.

نشعر أحياناً بسعادة خفيّة إذ نفاجأ بأن حكامنا ورواد حركتنا الوطنية وصلوا إلى ضرورة قول الحقيقة، أمام أنفسهم وأمام الغير، ولو جاء ذلك عبر مسالك انتقامية صعبة.. فماذا حدث في بنياتنا المجتمعية؟ وهل تحرر المجتمع وقادته فجأة من عقدة الذنب التاريخية؟.. لا أعتقد.

لأن مسألة مثل هذه لا تتفرد بها الثورات العربية وحدها، فكل الثورات مرت بظروف عصيبة دعتها إلى التآكل داخليّاً في لحظة من اللحظات.. الثورة الفرنسيّة نفسها، التي تشكل مرجعاً إنسانيّاً في التحولات العنيفة، عندما انتهت من قطع رأس الملك، قطعت رأسي قائديها: دانتون وروبيسبيير، دانتون قبل أن يموت تفطن إلى أن رومانسيته التي أدت به إلى الهلاك هي التي دفعت به إلى التنبه للمستقبل، فقال لصديقه روبيسبيير الذي حكم عليه بالإعدام: «احذر، سيأتي من يقطع رأسك»، وهو ما حدث بالفعل.

وعندما قويت شوكة البورجوازية، قطعت رأس روبيسبيير لأنه أصبح عائقاً في طريق مشاريعها.. نفهم جيداً وضعاً مثل هذا ولا نلوم كثيراً الفاعلين في حركة التاريخ، فحتى لو أردنا فعل ذلك، فلن نعيد التاريخ إلى الوراء.. لكن من حق الأجيال الجديدة أن تعرف ما حدث؟

أن نتعلم احتراف ثقافة الصراحة، ماذا يربح الفاعلون بصمتهم المزمن والمرضي، وهم مقدمون على الانطفاء الطبيعي؟

لقد مات الكثير من قادة الثورات العربية ولم نسمع منهم شيئاً عن الحقائق الوطنية، التي كان يمكن أن يسهموا بها في تصويب التاريخ، ولا يتركوه لمن لم يعشه إلا على الحواف، حتى ما كتب من مذكرات كان عبارة عن عنتريات أكثر منه رؤية نقدية ذاتية تقول الحقيقة المرة ولو على نفسها.. مات عبدالناصر ولم نعرف أسرار الوحدات القومية الفاشلة، ولا جوهر هزيمة 1967.. مات فرحات عباس رئيس أول حكومة جزائرية مؤقتة، ولم نعرف شيئاً عن صراعات الداخل؟

اختفى محمد بوصوف، رئيس المخابرات زمن الثورة الجزائرية، ولم نعرف بالضبط من كان وراء اغتيال القيادي عبان رمضان؟، ولماذا لم يفضِ قتلة بن بركة عن مكان قتله ودفنه؟

متى يُكتب تاريخنا العربي بيد الذين صنعوه وبالصدق نفسه، قبل أن يكتبه الآخرون عنا بقسوة اعتماداً على الحقائق الباردة؟.. وماذا لو يسهم الفاعلون الأحياء في إجلاء الحقيقة التاريخية قبل فوات الأوان، ثم ينسحبون مرتاحي البال والضمير؟