عانت بنغلاديش لسنوات طويلة من التنظيمات والحركات ذات التوجه الإسلامي المتشدد من تلك التي استغلت مناخ البلاد الديمقراطي لتضفي الشرعية على تواجدها في المعترك السياسي بصورة رسمية. وعلى الرغم من محاولاتها حكومة دكا، لاسيما حكومات الشيخة حسينة واجد المعروفة بتوجهاتها العلمانية، تقليم أظافرها عبر تقييد مصادر تمويلها واتصالاتها مع الجماعات المشابهة لها عبر الحدود، إلا أنها عرفت كيف تنجو بألف حيلة ووسيلة.

في عملية مطاردتها، تذرعت دكا دوما بخطورتها على أمن البلاد واستقرارها ووحدتها الوطنية، خصوصًا بعدما لجأت هذه الحركات للعنف المسلح أحيانًا ولأعمال الشغب وتعطيل مصالح المواطنين في أحايين كثيرة أخرى. ناهيك عن مهرجاناتها الخطابية التحريضية، وشعاراتها المؤيدة لما تقوم به تنظيمات أجنبية مشابهة لها في الفكر والتوجه والطموحات مثل داعش والقاعدة وطالبان وجماعة الإخوان المسلمين والحركات الجهادية الكشميرية وغيرها.

ومن الصدف العجيبة أن عودة حركة طالبان الأفغانية إلى السلطة في كابول تزامن مع وفاة «جنيد بابونغري» بالفشل الكلوي عن عمر ناهز السبعين عامًا. والأخير، لمن لا يعرفه، تولى في نوفمبر 2020 قيادة ما يـُعرف بـ «جماعة حفظة الإسلام»، من بعد أن كان نائبا لزعيمها السابق «شاه أحمد شفيع» منذ عام 2012. وتعتبر «حفظة الإسلام»، التي تأسست عام 2010، من أكثر حركات الإسلام السياسي تشددًا في بنغلاديش، بل من أكثرها لجوءًا إلى أعمال الشغب والتظاهر ضد الحكومة وقوات الأمن. وهي في الوقت نفسه تسيطر على آلاف المدارس الدينية الصغيرة المنتشرة على امتداد بنغلاديش ذات الـ169 مليون نسمة، والشبيه بالمدارس التي خرّجت مقاتلي حركة طالبان. في هذه المدارس، التي لم تنجح الحكومة في اجتثاثها أو التحكم في مناهجها، يدرس ملايين الطلبة الصغار ويعمل مئات الآلاف كمعلمين. وهذا خلق لها أتباعًا كثر، لاسيما في مدينة تشيتاغونغ التي تعتبر ثانية كبرى مدن بنغلاديش ومينائها الرئيسي، وهي في الوقت نفسه مسقط رأس جنيد بابونغري. ولعل أكبر دليل على صحة ما نقول أن جنازة الأخير والصلاة عليه في تشيتاغونغ شارك فيها أكثر من 800 ألف شخص.

وللمعلومية فإن جماعة «حفظة الإسلام» اتهمت في أكثر من مرة بمسؤوليتها عن أعمال العنف في بنغلاديش في السنوات الأخيرة، لكن دون أن تنجح الحكومة في استصدار قانون بحظرها وحظر مدارسها رسميا (مثلاً تحركت الحكومة قبل سنوات وقدمت اقتراحا في البرلمان لإنهاء وجود مدارس دينية خارج سيطرة وزارة التعليم، فقوبل اقتراحها بمسيرة انتهت بمقتل 19 متظاهرًا ورجل أمن)، وذلك تفاديًا لغضب وشغب أنصارها الكثر ممن غـُرس في أدمغتهم أن أي قرار تصدره الحكومة ضد تنظيمهم هو قرار ضد الإسلام.

من تلك الأعمال، قيام الجماعة في عام 2013 بتظاهرة ضخمة في العاصمة دكا للمطالبة بتغليط العقوبات ضد التجديف، انتهت بالتخريب ومقتل 12 شخصًا. ومنها أيضًا مظاهرات متفرقة خلال الأشهر الأخيرة ضد زيارة رسمية كان يعتزم القيام بها إلى بنغلاديش رئيس الحكومة الهندية «ناريندرا مودي».

قد تكون حكومة رئيسة الوزراء «الشيخة حسينة واجد» اليوم في حالة ارتياح من غياب أكبر مناويء لها في الساحة السياسية، خصوصًا إذا ما علمنا أن للغائب علاقات وطيدة مع حركة طالبان العائدة للتو إلى السلطة. غير أن ارتياحها هذا لن يطول. فللمدعو جنيد بابونغري أتباع كثر من المتشددين كما قلنا وعلى رأسهم «نور الإسلام جهادي» الذي يستعد لخلافته على ما يبدو. هذا ناهيك عن أن غياب فرد لن يسدل الستار على مشروع إيديولوجي قديم مغلف بغلاف إسلامي يغري أنصاف المتعلمين.

والمعروف أن جماعة «حفظة الإسلام»، خرجت من تحت عباءة «الجماعة الإسلامية البنغلاديشية» التي كانت إلى وقت قريب أكبر تنظيم إسلامي في شبه القارة الهندية، وكانت تدين بتعاليمها إلى الباكستاني أبي الأعلى المودودي، وتدين بنموها وتشعبها ودخولها السلطة بحمل حقيبتين وزاريتين قبل سنوات إلى حزب بنغلاديش الوطني بقيادة رئيسة الحكومة السابقة «خالدة ضياء» التي تحالفت معه ومكنته لأغراض انتخابية. هذا قبل أن تحظرها الحكومة الحالية وتحكم بالإعدام ضد زعيمها مطيع الرحمن نظامي عام 2014 وتنفذ الحكم فيه في عام 2016 بتهمة تعاونه مع القوات الباكستانية ضد مواطنيه البنغال في حرب عام 1971 التي انتهت بقيام دولة بنغلاديش المستقلة. وكان اعدام نظامي بموجب حكم من محكمة جرائم الحرب التي أسستها حكومة الشيخة حسينة واجد سنة 2009، وهي نفس المحكمة التي أصدرت أحكامًا مشابهة بالموت ضد قادة آخرين من الجماعة الإسلامية في سنوات متفرقة مثل: أزهر الإسلام ومير قاسم وعبدالقادر الملا وغلام أعظم، بتهمة التعاون مع العدو في حرب الاستقلال واحتجاز النساء واغتصابهن على أنهن من سبايا الحرب والتجسس على مقاتلي الحرية والابلاغ عنهم وغير ذلك من التهم.