هذه رسالتي الثالثة إليك يا سيد حسن. الثانية كنت أرسلتها إليك قبل عامين عبر صحيفة "النهار"، وتمنيناها أن تكون الأخيرة، ويومها أملت، شأني شأن كل اللبنانيين العقلاء، أن تسود الحكمة ويتغّلب العقل على الغرائز، وينهض لبنان من عثراته، لكن الآمال العذاب لشفاء هذا البلد من أوجاعه، تذهب دائماً أدراج الرياح ويا للأسف. وها لبناننا اليوم، يعاني ظروفاً من الضيم والضيق، لم يشهد مثيلا لها منذ تأسيسه. الظروف تجعلني أوجه إليك هذه الرسالة، وما أدراني إن ستكون آخر الرسائل، لأن حال التشرذم والتفتت لا تزال مستمرة في لبنان، وقد بدأت تهدد أساسه وكيانه، ولن ينجم عنها إلا الشقاء والمذلة والهوان لشعبه، ولن يستفيد منها إلا أعداء لبنان، وعلى رأسهم إسرائيل.

لا شيء يُسعد إسرائيل الصهيونية ويطمئنها، أكثر من جيران ضعفاء منقسمين على نفسهم دويلات وممالك وطوائف، وفي حال كهذه، تصبح هي الدولة الأقوى والأغنى والأكثر تقدماً في المنطقة، قريش الشرق الأوسط، قبيلة عبرانية قوية تتحكم بما حولها من القبائل العربية الضعيفة. أؤكد لك يا سيد حسن، أن هذا ما سوف يحصل، إذا بقينا طوائف وقبائل وعشائر، ولم نبن دولتنا المدنية العلمانية الحرة، التي هي الحل الوحيد الذي لا حل غيره، لبناء الشعور الوطني الأصيل الذي يحفظ بلدنا ويدرئ عنه المخاطر. منذ عشرات السنين وحلم الصهاينة أن تكون إسرائيل قوية بين ضعفاء. هذا ما كان يردّده المستشرق اليهودي المشهور برنارد لويس، صاحب عبارة أن العرب ليسوا مؤهلين ليصنعوا دولاُ، لأنهم لم يعرفوا في تاريخهم إلا ولاءين، للدين أو للقبيلة!

يريدنا الصهاينة وأعداء لبنان أن نبقى "شيعة وسنة ودروزاً وموارنة" وأقليات مختلفة خائفة، وهل نحن الآن غير ذلك يا سيد حسن؟! نظام لبنان الحالي يجعله ضعيفاً هزيلاً سائباً، وفريسة أمام أي دولة قوية، تريد التحكم به والسيطرة عليه. نظام يخرّج نواب طوائف، وزعماء طوائف، لا نواب وطن، وزعماء وطنيين، وأكثر ما يؤلم النفس اللبنانية الحرة، سماعها بعض مسؤولي الأحزاب في لبنان قولهم إن شعبية أحزابهم تتوسع، وانهم سوف يحصدون مزيداً من الأصوات في الانتخابات المقبلة! ما أسخفها هذه الغنائم، في دولة ضعيفة هزيلة. الم يحن الوقت بعد، ليدرك مسؤولو هذه الأحزاب الطائفية، والتابعون لهم من المغفّلين وأصحاب المصالح، أن سمعتهم، وسمعة بلدهم في العالم صارت في الحضيض، وان إسرائيل المتحدة القوية ستحكمهم، عاجلاً أم آجلا سوف تحكمهم وتتحكم بمصيرهم، ويكونون أمامها تابعين طائعين؟ ألم يحن الوقت بعد، ليدركوا أن قوانين العصرلن تهضم بعد الآن، نظاما طائفياُ قبلياً عنصرياً مثل النظام اللبناني، وانه إذا مضى الوقت ولم يبن لبنان نظامه المدني العلماني الحر، ويتحررمن حكم العصابات وسطوة الآلهة التي خلقها اللبنانيون على مثالهم، فسوف يزول. قد يبقى حياً، لكن حاله ستكون كحال مريض في غرفة العناية الفائقة. هذا الذي تمليه قوانين الطبيعة وأحكام التاريخ، لمن يعرف كيف يأخذ العظة من قوانين الطبيعة وأحكام التاريخ.

ستقول يا سيد حسن إن سلاح "حزب الله" هو لحماية لبنان من إسرائيل. أعرف يقيناً أن هذه حقيقية تجلو أكثر ما تجلو في ساحات المعارك، التي قد يسجل فيها "حزب الله" بعض النصر، ويلقّن الدولة العبرية درساً جديداُ. لكن السؤال الذي يطرح نفسه كما يقال في لغة الصحافة، ما هي التبعات التي سوف يتكبدها لبنان ثمناً لهذا النصر إذا تحقق، وما الغاية من ذلك كله؟! من الطبيعي في بلد مذاهب دينية مختلفة مثل لبنان، يقوم نظامه على "المحاصصات الطائفية"، وتتحكم النزعات الدينية بفئات كبيرة من شعبه، أن تكون النظرة إلى سلاح "حزب الله" على أنه سلاح مذهبي، وهذه حقيقية أخالك تعرفها يا سيد حسن. هذه "المعرفة" تقتضي أن يسأل الحزب نفسه، ونتساءل كلنا جميعا عن الفائدة من سلاح ينجز النصر في الحرب ضد العدو، ولا يحقق الوحدة والألفة بين الناس، لا بل يزيد الخلاف والفرقة بينهم؟!

يحتاج "حزب الله" إلى سند شعبي وطني، حتى يصبح سلاحه وطنياً مضّاءً، ويؤسفني، بل يؤلمني أن اقول لك يا سيد حسن، إن هذا السند الشعبي الوطني قد بدأ يتهاوى داخل لبنان، وفي المحيط العربي الواسع، وأقول لك أيضاً، وبصراحة ما بعدها صراحة، ومن قلب محب ملؤه التقدير لك ولرجال "حزب الله"، لو أن حرباُ تندلع اليوم بين "حزب الله" وإسرائيل، فإن الكثيرين من العرب، ومعهم الكثيرين من اللبنانيين المنضويين في أحزاب مناوئة للحزب سيتعاطفون مع إسرائيل، على رغم كرههم إسرائيل. قد لا يجهرون بذلك على ألسنتهم، لكن هذا ما سوف تضمره قلوبهم!

لا شيء يخدم إسرائيل أكثر من بلاد مجاورة لها تعاني الفرقة وتعدد الولاءات. يخدمها أيضاً الذين يدافعون عن هذا النظام الفاسد، والذين يترشحون للانتخابات فيه، والذين يدلون بأصواتهم في هذه الانتخابات. حتى الذين يترشحون فيها من جماعة المجتمع المدني، بحجة أنهم سوف يحدثون التغيير من الداخل، يخدمونها أيضاً، لأن أي تقرب من نظام من هذا النوع معناه تزكيته ودعمه! ما الفائدة التي يجنيها سلاح "حزب الله"، إذا كان وجوده يزيد الفرقة والعداوات والضغائن بين الناس، وهذه خطر على لبنان يفوق خطر إسرائيل عليه؟ ما الفائدة من سلاح الهدف منه الحرب لا السلم؟! هنا أريد أن أذهب معك يا سيد حسن إلى سيرة علي بن أبي طالب، لما فيها من أمثولات وحكم، نستخلصها على الدوام كلما أنعمنا النظر في سيرة هذا الإمام العظيم. أريد من هذه السيرة موقف الإمام الحسن من أبيه بعد مقتل الخليفة عثمان. السيرة تخبرنا أن الإمام الحسن كان رجل صدق، خبر غمرات الفتنة، وآثر اجتماع الكلمة، ولم يكن يرى لأبيه أن يتعرض لبيعة الخلافة، ولا أن يقبلها وإن عُرضت عليه، ولم يكن يرى لأبيه أيضاً أن يهجر المدينة ويذهب إلى الغربة في العراق، ويتعرض للموت. وكان أبوه يعصيه، حتى بكى الحسن ذات يوم حين رأى رُكاب أبيه تؤّم العراق، فقال له أبوه تلك الجملة المرّة: إنك لتحن حنين الجارية!

هل كان الإمام علي على حق في الذهاب إلى الحرب في العراق؟ هل كان الإمام الحسن على حق حين نصح اباه بعدم الذهاب إلى العراق؟ أرى أن كليهما كان على حق، فقد أراد الإمام علي نشر العدل بين الناس وفي كل الديار، فيما كان الإمام الحسن يكره الفتنة، متذكراً قول النبي فيه، وهو قول أكده الثقات من اصحاب الحديث كما جاء في السيرة وفحواه "أن النبي أخذ الحسن وهو صبي فأجلسه إلى جانبه على المنبر، وجعل ينظر إليه مرة، وينظر إلى الناس مرة اخرى ثم قال" ابني هذا سيد، ولعل الله يصلح به بين فئتين كبيرتين من المسلمين". الدرس الذي يتعين علينا استخلاصه من سيرة هذين الإمامين يا سيد حسن، هو أن نغّلب العقل، ونجنح إلى السلم الأهلي الذي يعزز اللحمة بين اللبنانيين، وقد أصبحوا اليوم يحنّون حنين الجارية، ويريدون أن يسترجعوا وطنا لهم، كان ذات يوم أخضر ومزدهراً وجميلاً.

في رسالتي الأولى إليك التي نشرتها "النهار" قبل سبع سنوات، تمنيت عليك ألا تُسّلم سلاحك إلى هذه الدولة الهزيلة وحكامها الفاسدين الطغاة، وأعيد عليك هذا التمني من جديد، فهؤلاء ليسوا أهلا لأن يُؤتمنوا على شيء، ولأني على ثقة لا يخالطها أدنى شك، بأنهم، ساعة يتسلمون هذا السلاح، سوف يستخدمونه ليشعلوا به حربا أهلية جديدة، فتصبح حالنا، كحال من يخرج من وضع ضيق إلى وضع أضيق ،"من تحت الدلف لتحت المزراب" كما تقول أمثالنا الشعبية. المسؤولية الملقاة عليك الآن يا سيد، أن تبقى محتفظاً بهذا السلاح، ولا تُسلّمه إلى هذه الدولة الطائفية العنصرية القائمة على النفاق والمنافع والمصالح، واستغلال الدين بأبشع الصور وأشدها قذارة. سلّمه إلى دولة مدنية علمانية، لأن هذه الدولة، كما قلتُ وكتبتُ غير مرة، هي الدولة الوحيدة التي تقبلها شريعة السماء، إنجيلا كريماً كانت هذه الشريعة أم قرآناً كريماً، وهي الدولة الوحيدة التي تنشر العدل والمساواة وحكم القانون، كما الحال في الدول الراقية التي اعتمدت الثقافة المدنية العلمانية نظاماً ونهجاً وطريقة حياة، وهي الدولة الوحيدة التي تهدم الجدار الطائفي الذي هو أشبه بسد منيع، يحول دون انتماء المواطن إلى وطنه، فيتحول ولاؤه إلى الطائفة وزعيم الطائفة. هنا أريد أن أكون جريئاً ومخلصاً وصريحا معك يا سيد حسن، واقول إن الظروف العصيبة التي يمر بها لبنان اليوم تقتضي قيام هذه الدولة، وأي تردد أو تأخر في ذلك هو بمنزلة الخيانة العظمى للوطن وللشعب، وأضّن على "حزب الله" أن يرتكب هذه الخيانة العظمى. من الحق والحكمة أن أشير أيضاً، إلى أن قيام دولة مدنية علمانية في لبنان، وتسليم "حزب الله" سلاحه إلى هذه الدولة الجديدة، لا يعني في أي حال من الأحوال، اعتراف لبنان بإسرائيل، أو عقد صلح معها على الإطلاق. أسمح لنفسي هنا بالقول درءاً لأي شك أو ظن من حملة أختام الشك والظن والتخوين، وما أكثرهم في لبنان، إني من أشد المؤمنين بأن إسرائيل شرّ مطلق، وأنها كيان قام على خرافات واساطير دينية لا أساس لها، والشرفاء من اليهود العقلاء، والعلماء منهم وهم كثر، يدركون هذه الحقيقة اكثر من غيرهم. من هؤلاء "شلومو ساند" استاذ التاريخ في جامعة تل أبيب، مؤلف كتاب "اختراع الشعب اليهودي" وفيه أن اليهودية انتشرت بالهجرات، وأن الحديث عن شعب في التاريخ اسمه الشعب اليهودي خرافة. "إسرائيل فنيكلشتاين" أيضاً، وهو من كبار أساتذة علم الآثار في جامعة تل أبيب، يفند الحكايات والقصص التاريخية الإسرائيلية ويضعها كلها أيضاً في باب الخرافة.

لن نكون ضد اليهود أبداً، أو أي جماعة من البشر، وإلا أصبحنا عنصريين. وعلى لبنان أن لا يعترف بإسرائيل، لأن ما جاءه منها من وجع، غير أوجاع الآخرين من العرب، ولأنها قامت على اغتصاب حقوق شعب ما زال جزء كبير منه يعيش على أرض لبنان، ولأنها نقيض لجوهر وجود لبنان الإنساني في هذا الشرق. هناك سبب يدفعني إلى هذا القول، هو ثقتي بلبنان وقدرات شعبه على العطاء في ميادين الفن والثقافة والعلوم، هذه التي اختبرتها في الوطن وفي المهاجر، وإدراكي الذي لا تشوبه شائبة، أن هذا البلد الصغير" الذي هو في منتهى الأهمية" كما وصفه رجل الدولة النمساوي الراحل، كليمنس مترنيخ، قادر إن هو تحرر، وأعطي الفرصة، على تغيير مشاعر العالم نحو إسرائيل، لأن التعددية الروحية فيه، إن هي اعتدلت واستقامت في دولة مدنية علمانية، صارت قوة إيجابية بنّاءة، لا عاملا سلبياً هداماً كما الحال في نظامنا الحالي، ويمكن أن تكشف حقيقة إسرائيل، على نحو ليس بمقدور أحد آخر أن يكشفها. حين يصبح لبنان بلد العائلات الروحية المتصالحة مع نفسها، يصبح قويا وقادراً على تخليص العرب واليهود من هذا الكيان العنصري. في كتابه "كليلة ودمنة" يقول ابن المقفع، "إن الريح العاتية تكسر الشجرة الصلبة، لكنها لا تقوى على صغار الحشيش"، ولبنان لا يحتاج إلى آلة حربية ضخمة كالتي بحوزة إسرائيل ليكون قوياً. يكفيه حدوده والوحدة بين أبنائه، ورسالته الثقافية والإنسانية ليقهر إسرائيل، ويخّلص العالم من شرورها. قدر لبنان أن يكون منذوراً لهذا الدور، وهذا الدور هو ليس حلماً يصعب تحقيقه كما قد يتبادر إلى ذهن أصحاب العقول العملية والواقعية. الم تكن إسرائيل حلماً في خيال ثيودور هرتزل، صاحب كتاب "الدولة اليهودية"، وخيال الآخرين من الصهاينة، ثم تحول إلى واقع؟ !لذلك أقول إن هذا الحلم اللبناني يمكن إنجازه على يد مواطنين من أبنائه منتشرين قي أصقاع العالم، اصحاب العقول النيّرة والإرادات الصلبة والنيات الحسنة.

أمر آخر أحسبك تعرفه حق المعرفة يا سيد حسن، وهو أن هناك من يشكّك في لبنانية "حزب الله" وفي وطنية "حزب الله"، ويقول إن الحزب ذراع إيرانية في لبنان. أقوال كثيرة ومواقف كثيرة اعتمدها الحزب عززت هذه الشكوك في أذهان الناس، ويمكنك تبديدها بمواقف لبنانية جديدة، ومنها الدعوة إلى قيام نظام مدني علماني في لبنان. ربما تكون قد التزمت مع الحاكمين في طهران، عهوداً ومواثيق يصعب على رجل غيرك تعديلها أو التنصل منها، وهي على لبنان حمل ثقيل، لكني واثق بأنك قادر، بما تملك من عقل راجح ورؤية ثاقبة وحجج قوية، على أن تقنع الحكام في طهران بحق اللبنانيين في العيش الكريم، وبأن بمقدور هذا البلد الصغير، أن يقارع إسرائيل في المحافل الدولية، من دون أن تكون في جعبته رصاصة واحدة. لا فائدة من أي سلاح يوّلد الضغائن والأحقاد يا سيد حسن، والحروب في النهاية لا تجلب غير الكوارث، وإن ذاق أحد الأطراف فيها طعم النصر، وآمل أن لا تنشب الحرب حتى لو تكللت بالنصر، وتأتي ساعة تقول فيها بينك وبين نفسك "ليتني متُ قبل هذا"، وتخاطب ربك، كما فعل الإمام علي بعد معركة الجمل، حين خاطب ربه بهذه الكلمات الأثيرة: "اللهم إليك أشكو عُجري وبُجري، شفيت نفسي وقتلت معشري".

في الختام أقول لك أيها السيد، إن لا نظام ولاية الفقيه، ولا نظام أي ولاية أو دولة دينية، سيكون أقرب إلى "الله" من نظام الدولة المدنية العلمانية، وهذا ما يحتاجه لبنان ليتحرر من سعير نظامه، ومن الجرائم التي ارتكبها ولا يزال يرتكبها زعماؤه الاقطاعيون باسم الدين، والمخالفة لشرائع السماء. إن عظام أهلك تناديك أيها السيد، وعظام ابنك الشهيد تناديك، وتراب جنوبنا الغالي عليك وعلينا جميعاً يناديك، والوطن كله يناديك، ويناشدك الرفق بالبشر والحجر، وأخذ الحيطة والحذر، لنجنّب لبنان المكايد التي ما زال يُحيكها له أعداؤه بين حين وآخر، ليبقى شعبه قبائل وطوائف خائفة متناحرة، تتربص القبيلة العبرانية بها الدوائر، وتتطلع إلى يوم يدُقون بابها مستغيثين، قبيلة مرغمة بعد قبيلة مرغمة، لتحميهم من القبائل الأخرى، كما حدث في ماض قريب وأخر بعيد، حين كانوا يدقون أبواب دمشق، وأبواب قناصل الدول الأجنبية!