هل هُزمت أميركا فعلاً في أفغانستان، واستطراداً في العراق وسائر الشرق؟

السؤال مغاير تماماً للسياق العام للتحليلات والاستنتاجات الصحافية والسياسية والاستراتيجية السريعة، لا سيما العربية، وخاصة تلك المرتبطة بالمحور المقابل التي احتفت بالهزيمة الأميركية "النكراء"، وكادت تعلن سقوط الإمبراطورية الرومانية المعاصرة.

رويدكم،

لا أميركا هُزمت ولا أحد انتصر بعد، بل لعل أميركا هي الدولة الوحيدة التي لم تُهزم.

ليست أميركا دولة كولونيالية بالمعنى التقليدي، ولم تغزُ أفغانستان والعراق كما كانت تفعل الدول الكولونيالية التقليدية القديمة، فرنسا وبريطانيا وبلجيكا وهولندا وإسبانيا والبرتغال عندما تحتل مستعمراتها في أفريقيا وآسيا وأميركا وأوقيانيا، فتستعبد شعوبها وتفرض دينها ولغتها وتنهب ثرواتها ولا تغادرها إلا بالدم. أميركا دولة إمبريالية طاغية، تعتمد أساليب جديدة تتواءم مع العصر وثورته التكنولوجية وفلسفاته واتجاهاته الفكرية الحديثة في الاقتصاد والسياسة والصراع... ليس دقيقاً حصر الدوافع الأميركية لاحتلال أفغانستان والعراق بالسعي الى السيطرة على منابع النفط والثروات الباطنية. فالنفط ثروة على طريق الأفول، وأميركا تملكه، وهي في صدد تطوير بدائل لن تتأخر في أن تصبح في متناول العامة بعد نجاح التجارب في مصانعها، وكذلك في مصانع أوروبا واليابان وكوريا والصين.

لماذا أتى الأميركيون إذاً وماذا فعلوا في المنطقة؟

لقد دمّروا الشرق الكبير (الإسلامي) من أفغانستان الى ليبيا. من هنا تبدأ الاستنتاجات الحقيقية وتقود عبر سلسلة مترابطة الى أن أميركا لم تُهزم.

لقد أتوا منتقمين ومدمّرين، وإذا كان غزو أفغانستان مبرراً بهجمات 11 أيلول (سبتمبر) على واشنطن ونيويورك، فإن غزو العراق اخترعت مبرراته التي لم تكن موجودة إلا في السجلات المفبركة لوكالة الاستخبارات المركزية ولوزير الخارجية كولن باول ونائب الرئيس اليميني المتعصب ديك تشيني والرئيس الذي قيل إنه مجرد أداة جورج بوش الابن.

في نتائج الغزو الأميركي أصبح العراق أشلاء دولة. البلد العربي الأغنى والأكثر تطوراً مزّقته الصراعات الطائفية التي أشعلها الحاكم الأميركي الأول للعراق المحتل برايمر، بتواطؤ جهات عراقية مع المحتل الأميركي، ما أنتج أحقاداً أضيفت الى الأحقاد السابقة، ليصبح مجموعة قبائل تعيش في بلد دولته شكلية وجيشه بلا حيل ولا قوة، تحكمه ميليشيات طائفية تابعة سياسياً وروحياً وقراراً الى ما وراء الحدود.

العراق اليوم بلد فقير، تابع ومستباح من أميركا وتركيا وإيران، وإسرائيل تسرح وتمرح في كردستانه. بلد النفط بلا محروقات وبلا كهرباء وقريباً بلا ماء، بعدما استضعفه الجيران وشفطوا مياه أنهاره الى سدودهم التي ستنتهي الى تجفيف دجلة والفرات عنه، كما عن سوريا الممزقة هي أيضاً، وبفعل أميركي، بشكل أو بآخر. لن تقوم قيامة للعراق وسوريا في المدى المنظور. ارتاحت إسرائيل رغم كل الصراخ من حولها والتهديد بمحوها من الخريطة الى أجل طويل.

ماذا عن اليمن الذي لم يعد سعيداً ولن يعود، عن شعبه الفقير أصلاً الذي قُسّم مذهبياً تقسيماً حاداً، تخطى كل الانقسامات التاريخية القبلية والسياسية؟ وماذا عن دول الخليج التي استنزفت مواردها وأموالها في الحروب المحيطة بها وعلى حدودها؟ ماذا عن ليبيا التي سوّتها طائرات أميركا وحلفها الأطلسي بالأرض، وها هي اليوم تعجز عن إجراء انتخابات نيابية ويتقاتل أهلوها على جنس الملائكة؟ ماذا عن لبنان وماذا عن تونس وعن الجزائر والسودان الذي أصبح سودانين؟

قد يقول قائل إن أميركا لم تفعل كل ذلك، وإن إيران وتركيا وإسرائيل وروسيا وحتى الصين لها دور في كل ذلك؟ نعم قد يكون ذلك صحيحاً، لكن كل التدخلات الإقليمية والدولية نتجت من الجريمة الأميركية، من احتلال العراق الذي كان الحلقة الأخطر في سلسلة الانهيارات التي ضربت المنطقة في عروبتها وفي إسلامها وفي مسيحيتها أيضاً. مسيحيو الشرق ليسوا إلا مجرد أرقام وهمية في اللعبة الأميركية، ولا بأس في أن يكوتوا ضحايا "داعش" التي هي صنيعة الغرب والشرق معاً، والمطيّة التي ركبوها جميعاً للوصول، كلٌ الى مبتغاه. لولا اجتياح العراق وتمزيقه من الداخل بعد حصاره وتجويعه بقرار أميركي جائر، لما كانت الحوادث اتّخذت المنحى الحالي.

تنسحب أميركا من أفغانستان، وبشكل أو بآخر من العراق، مخلّفة في الأولى فقراً وفوضى عارمة، وانقساماً شعبياً وحركة حاكمة متخلفة متعصبة تعيش في قرون مظلمة لم تعشها دولة إسلامية في أي مرحلة من تاريخ الإسلام. "طالبان" في أفغانستان تعني استمرار الدمار والقتل والعنف والانهيار على كل المستويات. وتعني أيضاً إزعاجاً دائماً لدول الجوار المنافسة لأميركا، روسيا والصين وإيران.

تنسحب أميركا مهزومة؟ المهزومون هم الشعب الأفغاني والشعب العراقي وشعوب العالم العربي والإسلامي من أفغانستان الى المحيط الأطلسي. أميركا حققت هدفها، أو بتحديد أكثر صهيونيو أميركا أنجزوا مهمّتهم التي دفعوا ثمنها عدداً محدوداً من القتلى، ومتى كان هؤلاء يحسبون حساباً للأرواح البشرية، وأفرغوا مستودعاتهم من أسلحة كانوا سيتلفونها ربما، وحصّلوا مئات مليارات الدولارات ثمن صواريخ وطائرات باعوها.

أميركا تغادر كابول جواً، والشعب الأفغاني المتعلق بأجنحة الطائرات العملاقة هو المذلول وليس ديك تشيني ولا جورج بوش ولا حتى جو بايدن.

المهمة الأميركية أُنجزت بنجاح قبل الانتقال الى مهمة جديدة.