لو كان المفكر العربي عباس محمود العقاد -رحمه الله- حيا لأضاف هذه العبقرية إلى سلسلة عبقرياته ولزادت واحدة؛ لأنها عبقرية فذة فرضت نفسها على العالم حينما كان الاستعمار يجتاح بلاد الله شرقا وغربا فأبدعت وأسست وكونت عالما خاصا لم يتأتَ لأحد من قبله ولا أعتقد أنها يتأتى لأحد من بعده، إذا ما قضينا لحظات التأمل فيما كانت تنتجه هذه العبقرية وكيف كانت تفكر.

إنها عبقرية المغفور له بإذن الله صقر الجزيرة الملك عبدالعزير -طيب الله ثراه-.

لقد دخل الرياض وهو شاب فتيِّ حيث يصفه المؤرخ فهد المبارك فيقول كان (فارع الطول، عريض المنكب، وسيما فارسا، ذا هيبة ووقار). هذه السمات لا تنم إلا عن عبقرية يدركها علماء الفراسة (الحدس، اللغوس) للوهلة الأولى.

وللملك عبدالعزيز مواقف عبقرية قد لا يعلم الكثير آثارها العميقة على توحيد وتأسيس المملكة ومنها على سبيل المثال (سياسة الهجر). حينما كان البدوي يتنقل بناقته وخيمته يدق الوتد أينما وجد العشب والكلأ، لكن لعبدالعزيز -طيب الله ثراه- رأيا أعمق وأبعد مما كان يتخيل معاصروه في ذلك الزمان، فهو بهذا الأمر ليس قائدا وحاكما فحسب بقدر ما هو مفكر ومبدع، ولذا رأى أن ذلك التنقل يضعف من ارتباط الفرد بالأرض أينما كان بلا أدنى شك! ولذلك أمر البدو الرحل ببناء منازل دائمة بدلا من إقامة الخيام المتنقلة، وبهذا تمت إقامة المباني وإنشاء المنازل وكان لذلك القرار الأثر الكبير ليس في قيمة الاستقرار فحسب وإنما لرؤية أبعد وأعمق وهي ربط الفرد بالأرض وعليه أصبح الدفاع عن الأرض أمرا محتوما نظرا لإحساس الفرد بالملكية، هذا أولا، وثانيا لتقوية الحس الوطني وارتباط الفرد بالأرض كوتد حقيقي في منبته وطينته فأصبح يذود ذود الأسود عن عرينها لما تركه ذلك الأثر في نفس القبلي من حقوق المواطنة والانتماء بالإضافة إلى الدفاع المستميت عن الملكية الخاصة.

الأمر الثاني أنه -طيب الله ثراه- أنشأ شبكة الطرق بين هذه الإنشاءات والأبنية وهذه القبائل ذلك الربط الشبكي المترابط الذي ما إن تم حتى ترك الأثر الداخلي على الذهنية بذلك الرباط القوي بين كل قبيلة وقبيلة متشكلا في إنشاءات ومنازل تربطها شبكة طرق جعلتها هي البذرة الأولى لتكوين المملكة بعد أن كانت مجرد إمارات متباعدة ومنفصلة.

ومن عبقريته -طيب الله ثراه- أن تزوج من هذه القبائل ليس ليحقق المصاهرة وأمور النسب التي لها شأنها في حياة القبائل، يقول جون فانيس في كتابه أقدم أصدقائي العرب: "كان الملك عبدالعزيز يتزوج من القبائل، وغرضه مصاهرة القبائل" بل امتد الأثر إلى العمق الفكري لمستقبل المملكة واستقرار الحكم فيها في زمن كانت تعصف الحروب بين الحين والحين، فكان يتزوج -رحمه الله- من القبائل لينجب أبناء لهم أخوال ودماء في هذه القبائل، ثم يوصي -رحمه الله- بأن يكون الحكم في أبنائه وبذلك ربط الدماء القبائلية والعشائرية بالمؤسسة، فأصبحت كل قبيلة تفخر بأن هذا الملك الحالي أو الملك القادم من أبنائها وأن دماءهم تسبح في ردهات المؤسسات الحاكمة، فأصبحت كل قبيلة شريكة في الحكم عاجلا أم آجلا؛ وكأنه -رحمه الله- قد قرأ فلاسفة العالم حيث جعل الحكم والعرش ليس لأسرة بعينهم بقد ما تشارك فيه جموع القبائل والشعب متمثلة في الدماء التي تجري بين السلطة والشعب. وهو صلب مفهوم الديموقراطية بأن يحكم الشعب نفسه والمتمثل في شركة القبائل بالأنساب والمصاهرة والأبناء المرشحين للحكم كلهم من أبناء الشعب نفسه، فأخلص الشعب للحاكم وأحبه لأنه منه! وكان بذلك يريد تجنيب تلك الصراعات التي كانت تزخر بها الجزيرة العربية على الحكم وبذلك استقرت الدولة بفضل هذا الفكر وتلك العبقرية على مبدأ مشاركة القبائل وربطها بالحكم عن طريق الدماء القبلية والتي امتدت فيما بعد في مصاهرة الأبناء وانصهار العشائر واندماجهم في السلطة عن طريق الولاء للحاكم والإرث القبلي المثل في روابط المصاهرة والأبناء. وإذا تأملنا هذا الفكر سنجد أنها ديموقراطية أشد وأدق من ديموقراطية صانعة الديموقراطية إنجلترا ذاتها التي تتجنب الزواج من أبناء الطبقات الشعبية حفاظا على الدماء الزرقاء إلى وقت قريب.

ومن عبقريته -طيب الله ثراه- ما ذكره صاحب السمو الملكي الأمير طلال بن عبدالعزيز رحمة الله عليه في كتابه عن والده حيث ذكر في كتابه عنه واقعة فريدة لا تنم إلا عن عبقرية فذة حين قال: إنه -طيب الله ثراه- قد أصيب في إحدى المعارك وخشي على الروح المعنوية لجنوده كما خشي أن يصل الأمر إلى جيوش خصومه وعلى ذلك طلب من جيشه أن يعلن زواج الملك عبدالعزيز بأجمل بنات العرب. وكان له ما أراد فعلقت الزينة ودقت الطبول وساد الاحتفال كل أجنحة الجيش مما رفع من الروح المعنوية لديهم، كما أذكى أيضا روح الهزيمة في صفوف أعدائه وتم انتصاره في تلك المعركة.