عملياً بدا، في الأشهر القليلة الماضية، أن إيران تتعامل بشيء من الاستخفاف مع التحذيرات من فشل مفاوضات فيينا، التي بدأت في مارس (آذار) الماضي، وعقدت ست جلسات فاشلة ثم توقفت في يونيو (حزيران)، وكذلك مع تصريحات وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، الذي دأب على القول إن واشنطن لن تنتظر مفاوضات فيينا المتوقفة إلى الأبد، ومن الواضح هنا أن النظام الإيراني كان ولا يزال يراهن على أمرين:
أولاً: تراجع النفوذ الأميركي من خلال بعض الانسحابات من الشرق الأوسط وآخرها من العراق، وأيضاً الخروج الأميركي الفاضح من أفغانستان.
ثانياً: المضي في عمليات تصعيد التخصيب النووي، بعد تعطيل أعمال المراقبة التي كانت تقوم بها وكالة الطاقة الذرية الدولية، منذ توقيع الاتفاق النووي عام 2015 الذي ألغاه دونالد ترمب عام 2018.
كانت الأمور متوقفة كلياً في فيينا، وقال موقع «بوليتيكو» إن نافذة إحياء الاتفاق النووي قد أغلقت، بعدما نشرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية تقريرين، يوم الثلاثاء من الأسبوع الماضي، يكشفان عن رفض إيران تقديم إجابات مرضية حول التحقق من أنشطتها النووية، وأنها تعرقل بشدة أعمال المراقبة المهمة التي يقوم بها المفتشون الدوليون، وأن التطورات الأخيرة تشمل تخصيب إيران عشرة كيلوغرامات من اليورانيوم، ما يقربها من مستوى تصنيع الأسلحة النووية وهو 60 في المائة
وبإزاء هذا، رسم روبرت مالي، المبعوث الأميركي الخاص إلى إيران، علامات استفهام كبيرة حول مصير مفاوضات فيينا، قائلاً إن النظام الإيراني تنتظره عقوبات جديدة، أو اتفاق منفصل ببنود جديدة، وأعلن أن فريقه أعدّ الخطط البديلة الطارئة وأحد الخيارات يتمثل باتفاق جديد بمعايير مختلفة عن الاتفاق النووي الحالي، وأن الخيار الآخر يتمثل في إعادة فرض مجموعة إضافية من العقوبات، وذلك بالتنسيق مع الشركاء الأوروبيين، وفي هذا السياق كانت فرنسا وألمانيا وبريطانيا قد أعربت، الأسبوع الماضي، بعد نشر تقريري الوكالة الذرية الدولية، عن القلق العميق من اقتراب إيران من إنتاج سلاح نووي، مؤكدة أن هذا يشكّل انتهاكاً خطيراً لتعهداتها، ما يفرض التفكير في البدائل التي تتحدث عن مروحة من العقوبات الجديدة يقتضي فرضها على إيران.
وأمام هذا التعقيد الذي بدا أنه سينسف محادثات فيينا، قالت «نيويورك تايمز»، بداية الأسبوع الماضي، إن الروس دخلوا على الخط عندما بذل مندوب موسكو في فيينا ميخائيل أوليانوف، بمساعدة المنسق الأوروبي للمفاوضات إنريكي مورا، جهوداً وضغوطاً، من أجل إعادة إحياء مسار الدبلوماسية المتوقفة منذ يونيو الماضي، وكانت النتيجة، الاتفاق على قيام رافاييل غروسي، مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بزيارة إلى طهران يوم الأحد الماضي، حيث أعلن أنه توصل إلى «اتفاق مؤقت» يسمح لمفتشي الوكالة خلال بضعة أيام بالوصول إلى معدات المراقبة في مختلف المواقع الإيرانية والتأكد من عملها على نحو سليم.
لكن المفاجأة جاءت فوراً، عندما أعلن غروسي بعد أربع وعشرين ساعة، أي يوم الاثنين بداية هذا الأسبوع، في اجتماع مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، أنه لم يتلقَّ أي وعود إيرانية، وأنه تيقن من أن مواقف الحكومة في طهران متشددة، وقال إن طهران لم تقدم توضيحات كافية لسبب وجود آثار اليورانيوم التي عثرت عليها الوكالة في بعض المواقع النووية، معتبراً أن هذا الالتباس قد يؤثر على قدرة الوكالة على تقديم ضمانات للمجتمع الدولي حول سلمية برنامج إيران النووي!
يوم الأربعاء الماضي، ذكرت صحيفة «نيويورك تايمز» أن خبراء يدرسون البيانات الجديدة للوكالة الدولية للطاقة الذرية، كشفوا أن إيران تملك القدرة على إنتاج وقود لصنع رأس نووي في غضون شهر واحد، ونسبت الصحيفة إلى تقرير صدر يوم الاثنين الماضي عن «معهد العلوم والأمن الدولي» وهي مجموعة مستقلة، أن تخصيب إيران خلال هذا الصيف لليورانيوم بدرجة نقاء 60 في المائة كان له تأثير كبير، فقد جعلها قادرة على إنتاج قنبلة واحدة في خلال شهر، بينما يمكنها إنتاج الوقود اللازم للسلاح الثاني في أقل من ثلاثة أشهر، والثالث في أقل من خمسة أشهر.
ويحذر المؤلف الرئيسي للتقرير ديفيد أولبرايت من أن طهران تضغط على إدارة الرئيس جو بايدن لتوقيع اتفاق من خلال تعزيز إنتاج الوقود النووي، في وقت تحوّلت المفاوضات في فيينا، التي عقدت ست جلسات حتى الآن، إلى مجرد ملهاة أو مجرد تغطية للمضي عملياً في تصعيد التخصيب.
قبل أيام، حذّر «معهد الدفاع عن الديمقراطية» الأميركي من أن انسحاب الولايات المتحدة الفوضوي والفاضح من أفغانستان يحمل تداعيات وتراجعات مهمة فيما يتعلق بخصوص نظرة إيران إلى أميركا كتهديد، وفي هذا السياق قد تجد طهران في فقدان واشنطن للمصداقية وتراجعها عن مواجهة خصومها في جنوب شرقي آسيا والشرق الأوسط، أنه لا يوجد وقت أفضل من الوضع الأميركي الراهن لامتلاك سلاح نووي.
ويلفت المعهد إلى أنه مع انحسار الوجود الأميركي في جنوب آسيا والشرق الأوسط، وإظهار الإدارة الأميركية عدم استعدادها لإنفاق موارد وطنية كبيرة لمواجهة التهديدات الإقليمية، فإن الحذر الذي دفع إيران ذات يوم إلى إبطاء طموحاتها النووية لم يعد موجوداً، وإن المضي في سياسة التخصيب النووي الاستفزازي، يشكل اختباراً عملياً لمدى تصميم الولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين.
في بداية الأسبوع الماضي، كرر وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، اتهام إيران بالمماطلة في المضي قدماً في مفاوضات فيينا، قائلاً إن هذه المفاوضات لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية، وإن الكرة الآن في ملعب الإيرانيين، وجاء هذا في وقت قالت فيه صحيفة «وول ستريت جورنال» إن الولايات المتحدة تخطط لفرض مروحة جديدة من العقوبات على طهران، وإنها بصدد اتخاذ إجراءات تستهدف قدراتها في مجال الطائرات المسيّرة والصواريخ الباليستية.
وهكذا بعد سبعة أشهر من بداية المفاوضات، بدا أن فيينا كانت بالنسبة إلى النظام الإيراني مجرد تمويه للمضي في التخصيب النووي، والكرة الآن ليست في ملعب طهران، بل في ملعب واشنطن وشركائها الأوروبيين، بعدما لم تنسحب أميركا من الشرق الأوسط وأفغانستان فحسب، بل انسحبت مما هو أهم، أي هيبة الردع التي يتخلى عنها بايدن عبر سياسته الحالية!