ران صمت طويل قطعته نوبات بكاء، كأن «جمال عبدالناصر» مات الآن.

بدا الموقف مفاجئاً فيما كان صديقي الراحل الدكتور «خالد عبدالناصر» يدقق بعض تفاصيل ما جرى في بيت منشية البكري يوم 28/ سبتمبر 1970.

كانت الساعة تقترب من الرابعة صباحاً مطلع عام (٢٠٠٣). وعلى خط هاتفي آخر من داخل البيت نفسه كان معنا شقيقه «عبدالحميد». انهار هو الآخر ودخل في بكاء مرير.

لم أعلق بكلمة واحدة وتركت المشاعر تأخذ مداها لعل البكاء يريح.

وبعد ثورة «يناير» بشهور قليلة، قبل عشر سنوات بالضبط، رحل «خالد» بعد معاناة مضنية مع المرض.

لم نجلس مرة واحدة نستقصي وقائع ما كان يجري خلف الأبواب المغلقة وفق خطة معدة سلفاً، كل شيء ترك لتيار التذكّر وكتب بالطريقة نفسها. في أي وقت يتصل حتى لو كان فجراً، يروي ما يكون قد تذكره تواً، والكلام يوضع على أية أوراق يتصادف وجودها أمامي.

غلبت البكائيات على ما كان يتذكره من وقائع حتى خشيت عليه من التوحد مع الماضي. فلسنوات طويلة استقر داخله شعور غامض بأنه سوف يغادر الدنيا مبكراً، كوالده الذي توفي في الثانية والخمسين من عمره.

عاش أطول من هاجسه حتى الثانية والستين، وقاوم الأمراض التي داهمته، سأل أصدقاؤه المقربون إذا كان ممكناً أن يساعدوه في البحث عن عمل، هكذا بالحرف: «أنا عاوز اشتغل»، غير أن حياته انقضت بعد أسابيع قليلة من ذلك السؤال.

أعاد اكتشاف والده في ثمانينات القرن الماضي، وأراد أن يؤكد لنفسه قبل الآخرين أنه «ناصري» بالاعتقاد لا بالوراثة. وأثبتت التجربة جدّيته وصدقه.. أدخل قفص الاتهام على خلفية تأسيسه «تنظيم ثورة مصر».

ذهب إلى منفى اختياري في يوغوسلافيا مطلع تسعينات القرن الماضي، ولم يمش في جنازة والدته.

في هذه الجنازة هتف مواطنون مصريون في وداع زوجة «عبدالناصر»: «ثورة مصر لما هبت، مصر من وراها ردت. عاشت الإيد اللي ربت».

حمل «عبء التاريخ» على كاهله، فهو النجل الأكبر ل«جمال عبدالناصر»، وتصرفاته محسوبة على اسم والده.

يتحدث على راحته، كأي شاب آخر، مع أصدقائه، لكنه ما إن يخرج إلى المجال العام حتى يضبط تصرفاته وأقواله، فكل تصرف تحت المجهر، وكل قول محل فحص. لم يكن مقتنعا بسيناريو «التوريث».. وذات مرة قاصداً أن يصل صوته إلى مركز القرار قال لي على الهاتف صارخاً: «ليه.. ليه.. يدخل الجحيم برجليه».

التعبير نفسه استخدمه الرئيس الأسبق «حسني مبارك» في سياق آخر: «لن أضع ابني في الجحيم بيدي»، غير أنه لم يوقف السيناريو، وكان ما كان.

يكاد صوته إذا ما ارتفع يطابق صوت «جمال عبدالناصر»، كان ذلك يسعده إلى حدود غير متصورة.

وقبل رحيل «عبدالناصر» بأسابيع قليلة خطر لوالدته أن تسأل: «خالد حيتخرج السنة الجاية، وأنا عارفة إنك حتبعته للجبهة الأمامية».

- «أيوه يا تحية».

كان تقديره أن الواجب الوطني يقتضي أن يدفع بابنه لخطوط القتال الأمامية، وفي أول نقطة مواجهة مع إسرائيل. فماذا يقول الناس إذا دفع «عبدالناصر» بأولاده لخطوط القتال الأمامية، وأعفى ابنه من ضريبة الدم؟

ذكرياته في منشية البكري صاغت الخطوط العريضة في تجربته الإنسانية، غير أن مشهداً واحداً قبع في الذاكرة لا يغادرها، مشهد يوم الرحيل مساء ٢٨/ سبتمبر ١٩٧٠.

كان انتهى لتوه من تدريب كرة يد بنادي هليوبوليس في ضاحية مصر الجديدة.

لم يكن هناك شيء غير عادي. رأى أمامه فجأة «عصام فضلي»، وهو ضابط من قوة الحراسة الخاصة بالرئيس. قال له: «تعالَ.. عايزينك في البيت». ولم يزد حرفاً.

كانت هناك حركة غير عادية في الدور الثاني في غرفة الرئيس.

«أبي أمامي على السرير مرتدياً بيجامة، طبيبه الخاص الدكتور الصاوي حبيب يحاول إنقاذ حياته بصدمات كهرباء للقلب. السيد حسين الشافعي بزاوية الحجرة يصلي ويبتهل إلى الله.

الدكتور الصاوي قال بلهجة يائسة كلمة واحدة: خلاص.. الفريق أول محمد فوزي نهره بلهجة عسكرية: استمر. ثم أخذ يجهش بالبكاء. نفذ أمر الله.

أخذت الأصوات ترتفع بالنحيب.. لم أبك. وقفت مصدوماً. بكيت بمفردي بعد أسبوعين ثلاث ساعات مريرة. لم أصدق أن أبي رحل فعلاً.

أمّي أخذتها حمّى أحزانها، أخذت في البكاء والنحيب كأي زوجة تنعى رجلها وجملها.

جاء أنور السادات وتبعته - على عجل - السيدة جيهان بفستان أزرق. السادات نهرها: «امشي البسي أسود وتعالي». بدأ توافد كبار المسؤولين في الدولة على البيت.

حملت قوة الحراسة الشخصية جثمانه على نقالة إسعاف، بلا غطاء، وجهه مكشوف، ابتسامة رضا تعلوه، رائحة الموت كريهة، لكنها بدت لي مِسكاً.

تابعت أمي الجثمان المحمول على نقالة إسعاف بنحيب دوّى في المكان الذي كان للحظات قليلة مضت المقر الذي تدار منه مصر وصراعات المقادير على المنطقة.

قال لها السادات على طريقة أهل الريف في مثل هذه الأحوال: يا تحية هانم.. أنا خدّامك.

مضى أبي أمام عيوننا محمولاً على نقالة إسعاف، لم يعد. لم نره مرة أخرى.

لم تذهب معه أمي، ولا أحد من أبنائه لقصر القبة. أمّي جلست على السلم تنتحب.

ما زال يدوّي في وجداني بكاء أمي الملتاعة وهي تجري وراء الخروج الأخير لعبد الناصر من بيت منشية البكري: وهو عايش خدوه مني. وهو ميت خدوه مني.

كان ذلك مشهداً تراجيدياً مقتطعاً من التحولات والانقلابات التي أعقبت الرحيل.

وسط تلك التحولات والانقلابات أعاد «خالد عبدالناصر» اكتشاف نفسه ومعنى حياته، وشاءت أقداره أن يعيش حتى يرى ثورة «يناير» (2011) التي أيّدها بحماس بالغ قبل أن يرحل في العام نفسه.