تعيش المملكة العربية السعودية، مع افتتاح معرض الرياض الدولي للكتاب 2021، حِراكًا ثقافيًا ومعرفيًا عالميًا في خط "صناعة النشر"، وهي دلالة محورية مهمة، على الرأي العام السعودي أن يعيها إذا ما أراد فهم السياق الذي تقدمه لنا وزارة الثقافة، والجهة المشرفة على التنظيم "هيئة الأدب والنشر والترجمة".

ومن يُعمق النظرة في النسخة الجديدة لمعرض الرياض الدولي للكتاب، سيجد تحولات عميقة وجوهرية، فهي ليست مُحددة بـ "الإطار الثقافي المُجرد" فقط، بل امتدت إلى ما يعرف بـ"الاقتصاد الثقافي"، وهو فرع من فروع الاقتصاد، يدرس العلاقة بين الثقافة والنتائج الاقتصادية.

وفي ظني أن الخريطة التكوينية لمعرض الرياض الدولي للكتاب، هي بمثابة مرحلة انتقالية كبيرة ستكون فيها "الرياض" إحدى أبرز الوجهات الإقليمية والدولية في صناعة النشر والفعاليات الثقافية ومعارض الكتب، بحيث تتحول إلى مقصد عالمي مشترك لعشرات الآلاف من المثقفين والكتاب والباحثين والناشرين من كل البلدان، ومئات الألوف من عنوانات الكتب المعبرة عن كل الثقافات.

أهم ما نجحت فيه وزارة الثقافة، بقيادة وزيرها الشاب الأمير بدر بن فرحان، هو إعادة التصورات المنهجية والفلسفية والاقتصادية لمعرض الرياض الدولي للكتاب، ومحاولة الاستفادة من التجارب العالمية المرموقة، والمضي قدمًا في تقديم نسخة مختلفة وفريدة من نوعها، تُبرز بشكل مباشر قوة المملكة العربية السعودية في تنظيم أكبر التظاهرات الدولية الثقافية التي تُعنى بالكتاب والأدب، لذلك لم يعد الأمر مقتصرًا على التنظيم، بل في جعل المعرض نافذة للأدب العالمي وإثراءه وتشجيعه، وصانعة له وباحثة عن حلول مشكلاته، وما يبعث على التفاؤل هو عدد العارضين المشاركين في النسخة الجديدة الذين تجاوزا أكثر من ألف دار نشر محلية وعربية دولية، تنتمي لـ 30 دولة، ستسهم بإصداراتها في التعبير عن حضارتها وكتّابها، وهذا يعني أن الرياض أصبحت "مخزن ثقافة العالم".

إحدى الهويات الجديدة للمعرض، والتي ستكون محوراً تنافسياً على المستويين الإقليمي والدولي، تنظيم مؤتمر الناشرين الدولي، الأول من نوعه، والذي يشارك فيه 42 شخصية معنية بصناعة النشر في العالم، وهو مهتم بمناقشة واقع الثقافة العالمية، ومعالجة أوجه القصور من أجل التطوير ورفع مستوى الإسهام، باختصار لم يعد الأمر مجرد معرض للشراء بل شريكًا أساسيًا في مشكلة عالمية متفاقمة يعاني منها الجميع، وهو ما سيضع الرياض في لب صناعة النشر العالمية.

من المُحددات المهمة التي تظهر متانة "الاقتصاد الثقافي" ذكره رئيس اتحاد الناشرين العرب، محمد رشاد، وهو أن معرض الرياض الدولي للكتاب، سيسهم بشكل فاعل في تعافي صناعة النشر لما بعد مرحلة جائحة فيروس كورونا المُستجد (كوفيد- 19)، وهذا في حد ذاته تحدٍ تمكّنت السعودية من تجاوز إقامته لتمنح قبلة الحياة لدور النشر التي تعد تلك المعارض نافذة حياة لها خلال العام، على الرغم من سمة التأجيلات التي نشهدها على مستوى المنطقة والعالم بسبب الوباء.

ما وصلت إليه السعودية من تحويل معرض الرياض إلى نافذة عالمية وشريك أساسي في صناعة النشر العالمي لم يأتِ من فراغ، بل بسبب رؤية المملكة 2030 الطموحة، فخلال السنوات الماضية وحسب الأرقام الرسمية، بلغ الاستثمار السعودي في قطاع النشر 4.5 مليارات ريال فقط، حصيلة إنتاج 500 دار نشر سعودي، بجانب المبادرات الثقافية كـ"نمو" والمهرجانات الفنية كالبحر الأحمر السينمائي الدولي، وتأسيس هيئة الأدب والنشر والترجمة في فبراير 2020، كل ذلك جعل في النهاية حراكاً في التأليف والنشر، وهو ما جسد عامل جذب قوي لدول العالم كافة.. دمتم بخير.