تسير الديبلوماسية الروسية على حبلٍ مشدود بين ضغوط ايران عليها للتراجع عن التحوّل النوعي في سياساتها نحو اسرائيل الذي تتوّج بتعهّدها مؤخراً ضمان الأمن الإسرائيلي، وبين مساءلة اسرائيل لها حول ما تنوي أن تفعله ازاء هذه الضغوط لتقرّر الديبلوماسية الإسرائيلية بدورها ماذا ستفعل بالعلاقة الروسية- الإسرائيلية. الأمر ليس بمجرد مواقف عابرة للاستهلاك السياسي وإنما هو مأزق خيارات استراتيجية للكرملين عنوانه الرئيسي سوريا. عناوينه الفرعيّة تشمل تطوّر العلاقات الروسية المتأزمة مع دول حلف شمال الأطلسي وانعكاس كل ذلك على جهود إحياء الاتفاقية النووية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية JCPOA. الرئيس الأميركي جو بايدن يقع في خضمّ هذه التطوّرات وقد يجد نفسه مضطراً بدوره لإعادة النظر في أكثر من مسألة وسط التصعيد الإيراني- الإسرائيلي وعلى ضوء التموضع الاستراتيجي الروسي فيه.

تقول موسكو وطهران إنهما تمهّدان لإبرام اتفاقية "تعاون استراتيجي" بين البلدين وتعملان على خريطة طريق نحو تحقيق هذا الهدف. واقع الأمر أن العلاقة تتعدّى مجرد "التعاون" وتدخل فعليّاً مرتبة "التحالف" الاستراتيجي بالذات في سوريا حيث روسيا- شبه الحاكمة هناك- في حاجة ماسة إلى ايران و"حزب الله".

سوريا تشكّل أولوية استراتيجية للكرملين والرئيس فلاديمير بوتين يريد "إقفال" الملف السوري السنة المقبلة ليعلن أ0ن "الحرب هناك قد انتهت". وهذا يتطلب، بحسب رؤيته، "تحرير" ما تبقى من الأراضي السورية ليس من إيران- كما يعتقد البعض- وإنما من الولايات المتحدة وتركيا. الصفقة التي يريدها مع إدارة بايدن ترتكز الى استئصال اعتراف الولايات المتحدة بشرعية بشار الأسد في الرئاسة. فالأسد هو مفتاح بقاء القوات الروسية في القواعد السورية، والكرملين لن يتخلى عن هذه القواعد مهما كان الثمن. فإذا كان الثمن هو الانصياع الى واقع العلاقات القويّة بين نظام بشار الأسد والنظام في طهران، يبدو الكرملين جاهزاً لدفع ذلك الثمن.

المعضلة الإسرائيلية في هذه المعادلة ليست ثانوية. فلقد تمكّنت موسكو من إبرام صفقة خفيّة مع إسرائيل في الساحة السورية بحيث لا تقوم اسرائيل بعمليات عسكرية تقوّض نظام الأسد وتهدّد بقاءه الحيوي للمصالح الروسية، مقابل الصمت الروسي على ابتلاع إسرائيل هضبة الجولان وضمّها بمباركة روسية- أميركية. كان هناك نوع من توازن الصمت بمعنى الصمت الروسي على الإجراءات الإسرائيلية في سوريا، والصمت السوري على تكرار العمليات العسكرية الإسرائيلية، والصمت الإيراني على الصفقة الروسية- الإسرائيلية، والصمت الإسرائيلي على امتداد نفوذ إيران و"حزب الله" في سوريا، وصمت إيران و"حزب الله" على مباركة روسيا ابتلاع الجولان وحرمانهما من تفعيل المقاومة من الجبهة السورية.

صفقة توازن الصمت هذه استمرت الى أن اصطدمت بإعلان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف- وبجانبه نظيره الإسرائيلي- أن روسيا ملتزمة بضمان أمن إسرائيل. هذا الإعلان كان فعلاً عبارة عن تغيير في قواعد اللعبة game changer. وهذا لم يعجب القيادة الإيرانية التي بدت جزءاً من التفاهمات الدولية والإقليمية ووجدت نفسها عارية من ثوب المقاومة ضد اسرائيل الذي تلبسه من أجل حشد الجيوش التابعة لها في الدول العربية وفي مقدمتها جيش "حزب الله" في لبنان. فالتفاهمات الصامتة شيء، وإعلان مواقف على نسق إعلان لافروف التزام موسكو ضمان أمن اسرائيل شيء آخر.

هنا وقعت الديبلوماسية الروسية في مأزق. أثناء زيارة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان الى موسكو وأثناء مؤتمره مع نظيره سيرغي لافروف، حذّر عبداللهيان من ان "المنطقة لا تحتمل مزيداً من التصعيد والاستفزازات"، وقال ان طهران أكدت لموسكو انها "لن تقبل بأي تحولات جيوسياسية في المنطقة، كما لن تقبل بتعزيز الحضور الإرهابي والصهيوني فيها"، متحدّثاً عن جنوب القوقاز حيث الأزمة المتصاعدة بين إيران وأذربيجان التي تدعمها تركيا وإسرائيل. وبحسب المصادر، ان إيران جاهزة لاستخدام القوة العسكرية في أذربيجان إذا اضطرت، نظراً لأهمية الممرات الاستراتيجية لها.

ما نقلته المصادر عن محادثات عبداللهيان في موسكو هو انها عكست مواقف ايرانية قويّة معارضة لإعلان روسيا التزامها بضمان أمن اسرائيل. لاقى ذلك قلقاً من ناحية اسرائيل عبّر عنه وزير خارجيتها في مخابرات هاتفية مع نظيره الروسي. فوقعت الديبلوماسية الروسية في أزمة.

"التغيير آتٍ" الى المواقف الروسية المعلنة في شأن ضمان أمن اسرائيل، قال مصدر روسي متوقعاً ان "تتراجع Step back روسيا قليلاً" من ذلك الالتزام. قال إن "ضمان روسيا لأمن اسرائيل ليس الأولوية لروسيا في المنطقة. فروسيا في حاجة الى سوريا أولاً". أقرّ بصعوبة التوازن بين إيران وإسرائيل لأنه "شائك" tricky لروسيا. لكنه أقرّ أيضاً ان روسيا على المحك وأن اتمام ملف سوريا له الأولوية- أقلّه حالياً.

التراجع قليلاً عن إعلان لافروف قد يبدو انتصاراً معنوياً للديبلوماسية الإيرانية سيّما وان الصفقة الاستراتيجية الروسية مع الجمهوريةالإسلامية الإيرانية في سوريا تبدو أهم من العلاقة الروسية- الإسرائيلية. هذا سطحيّاً. في الصميم، الأرجح ألاّ تتعكّر التفاهمات الحيوية بين روسيا واسرائيل لدرجة انهيارها في سوريا. وهذا يعني استمرار التعهّد الروسي بلجم أية رغبة لإيران أو "حزب الله" بتفعيل جبهة المقاومة من الجولان. وهذا ليس سطحياً.

ما قد يتمخّض عن التصعيد بين إيران واسرائيل هو فشل الجهود الروسية الرامية الى تثبيت التهدئة بينهما وتطويرها لتصبح أكثر ديمومة وأوسع أفقاً. محادثات لافروف- عبداللهيان تطرّقت الى الأمن في منطقة الخليج والشرق الأوسط، ولم تتوقف عند اعتراضات عبداللهيان. فروسيا تبقى دولة كبرى حيوية لإيران وللصفقة النووية.

عبداللهيان توجّه بعد روسيا الى لبنان في زيارة "نفش الريش" العجمي على أنقاض السيادة اللبنانية. الدولة اللبنانية بخّرت له من رئيسها الى رئيس حكومتها الى رئيس برلمانها تحت شبه رعايةٍ غربية صامتة. فلبنان بات لدى العواصم الأوروبية والإدارة الأميركية أداة مفيدة لرسائلها الإرضائية لطهران ولمشاريع إعادة تأهيل سوريا بشار الأسد داخل وخارج سوريا ونحو لبنان.

في الموضوع النووي، تحدّث وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن هاتفياً مع الروسي سيرغي لافروف قبل اجتماع الأخير بنظيره الإيراني. فحوى الرسالة الأميركية هو استمرار الرغبة الشديدة لدى إدارة بايدن باستئناف محادثات فيينا الرامية لإحياء الاتفاقية النووية مع إيران في غضون 3-4 أسابيع شرط ألا تفرض طهران الشروط المسبقة. ثانياً، أبلغ بلينكن الى لافروف أن الوضع الآن غير ما كان عليه عندما أبرمت إدارة أوباما الاتفاقية النووية، وأن هناك حاجة الآن لوضع حدود معيّنة جديدة على البرنامج النووي الإيراني. وهذا بحد نفسه تطوّر قد يعرقل المفاوضات.

بالمقابل، تأتي مطالبة إيران بأن تدفع البنوك الغربية لها حوالى 10 مليارات دولار كشرط مسبق لاستئناف محادثات فيينا ليعقّد الأمور أكثر ويجعلها شبه مستحيلة.

روسيا اقترحت التشاور الثلاثي الأميركي- الروسي- الإيراني عبر اطار لحل المشاكل العالقة التي تمنع استئناف مفاوضات فيينا وأبرزها حالياً هو معادلة الصفقة والمال. لكن التوتر بين حلف شمال الأطلسي في بروكسل وبين موسكو يتفاقم وكذلك أزمة الديبلوماسيين بين واشنطن وموسكو. الضغوط تتزايد على الرئيس جو بايدن الذي يبدو ضعيفاً ويزداد ضعفاً وهو يقع تحت الضغوط الأوروبية للخضوع أمام المطالب الإيرانية. كل هذه الأجواء تعكّر الاندفاع نحو استئناف مباحثات فيينا أو نحو إبرام الصفقة النووية مع ايران التي تريدها روسيا والدول الأوروبية بانصياع لإيران والتي تواجه إدارة بايدن فيها مشاكل أميركية واسرائيلية- قد تكون مرحلية أو مصيرية.

شدّ الحبال في الساحة السورية بات جزءاً من المفاوضات النووية لجهة استرضاء الجمهورية الإسلامية الإيرانية. استعراض المواجهة اللفظية الإيرانية- الإسرائيلية من القوقاز الى سوريا قد يتم ظبطه بقرار أميركي- روسي. لكن استعراض طهران عضلاتها في وجه روسيا وليس فقط الولايات المتحدة قد يعرقل قطار التفاهمات الإقليمية. فإيران هي التي تعلم إذا كانت جدّيةً حقاً في المزايدات والمكابرة مع دولة مثل روسيا أكبر حجماً منها في سوريا وأبعد، أو إذا كانت تساوم لتحصل على صفقة أفضل- نووية وإقليمية بأبعادها العربية والإسرائيلية. وقد تكون القيادة في طهران هي التي تسير بقلق على حبلٍ مشدود بالرغم من تظاهرها بأنها واثقة من نفسها فوق العادة.