ربما قدر لبنان أن يتلقى ودون انقطاع، الصدمات ذات الطابع المكلف في شتى المجالات، وفي طليعتها وحدته الوطنية، صحيح أن ما جرى مؤخراً ليست سابقة في تاريخه المعاصر، إلا أن حجم الشرخ ودلالاته وتداعياته ستكون مكلفة جداً، وتهدد أسس الكيان التي باتت أصلاً في وضع حرج، بعد سلسلة التحلل التي طالت مختلف القطاعات الرئيسية في الدولة.
سجل لبنان اليوم آخر الارتطامات النوعية؛ بحيث يصعب إعادة الترميم والبناء من جديد، فمؤسسات الدولة بشكل عام تترنح تحت وطأة عوز وطني موصوف، في وقت باتت مختلف أطيافه السياسية والاجتماعية تعيش حالة انفصام سياسي عن واقع يحتاج إلى الكثير، طلاق سياسي وصل إلى المؤسسات الدستورية، في وقت تبدو الحاجة ماسة إلى تعاون مدروس يبقي حداً أدنى من مظاهر السلطة والدولة، فما تبقى من دولة تنتظر ظروفاً قاسية وصعبة في القادم من الأيام؛ حيث تلوح في الأفق أزمة حكم وحكومة، على قاعدة انقسام عمودي حاد، لن يكون بمقدورها مواجهتها أو حتى التكيف معها، كما كان يحصل سابقاً، فثمة قضايا تتطلب مواقف تتصف بعناية فائقة، وهو أمر غير متوافر بحسب ما يظهر من مواقف حادة تنذر بشر مستطير، وسط استحقاقات دستورية داهمة لا مجال للمناورة فيها، لضيق الوقت وحجم التناقضات والتباينات الهائلة.
ولا يقتصر الأمر على التكوين البنيوي للسلطة والدولة؛ بل يمتد الأمر إلى الواقع الاقتصادي والاجتماعي الذي دخل عين العاصفة، فثمة انهيار اقتصادي مالي غير مسبوق لا في لبنان ولا في غيره من الدول، انهيار للعملة الوطنية، وفقدان العملات الأجنبية التي تشكل ركناً أساسياً في تأمين الحاجات الاجتماعية الأساسية، في ظل عجز كامل في القدرة على التعاطي مع الواقع المأساوي، وفي سياق المزيد من الفشل في استغلال الفرص المتاحة نسبياً من المؤسسات المالية الدولية لإعادة ضخ بعض أوجه الحياة الاقتصادية، المتصل أساساً بمطالب الإصلاح التي تتطلب بدورها توافقاً غير متوافر، والأمر الأخطر من ذلك إذا تكررت سوابق المقاطعة والاعتكاف الحكومي، وما يمكن أن ترتبه من حالات شد وجذب بين السلطات الدستورية الأخرى الدائمة التأهب لحالات الاستقطاب المتصل بخلافات لا حل لها.
ولكي تكتمل صورة الواقع اللبناني المأساوي، زُجت مختلف التشكيلات الاجتماعية في فقر وعوز غير مسبوقين؛ حيث الفقر المدقع تجاوز نسباً خيالية يكاد من الصعب وصفها، لا يوجد أحد في لبنان قادر على تأمين ليس الحد الأدنى، إنما أبسط متطلبات الحياة اليومية. ثمة طوابير مختلفة الأنواع تشاهد يومياً وفي كل المناطق، تبدأ على محطات الوقود، ولا تنتهي بالأفران ولا محطات المياه أو غيرها من السلع الحيوية. كل ذلك يترافق مع مظاهر تفكك أسري واجتماعي خطر، في الكثير من حالات التحلل الاجتماعي ذات الطابع السلوكي الخطر، كحالات القتل والسلب والتفلت القيمي الذي ينذر بأبشع أنواع صور التفجر الاجتماعي.
التداعيات الأخطر لهذه المظاهر السيئة جداً، تظهر في السلوك الجمعي للبنانيين؛ حيث تشكل الهجرة حالة تلبّس عقلي وسلوكي لدى اللبنانيين؛ إذ إن الطلب على جوازات السفر بشكل غير مسبوق، إضافة إلى محاولات الهجرة وإن كانت غير شرعية ومحاطة بمخاطر محققة؛ حيث تبرر هذه المظاهر من قبل أصحابها، أنه لن نواجه أقسى وأبشع وأخطر مما نحن فيه. فالتدقيق في أرقام (الهاربين) من الجحيم تشكل أرقاماً مهولة تمس الواقع السكاني والديمغرافي للبنانيين الذي افتقد أساساً الكثير من مقوماته الأساسية.
لبنان يقبع اليوم في عين العاصفة، بعد ارتطام سياسي واقتصادي واجتماعي لا وصف له، وهو يتطلب معجزات في عصر لا وجود لها، الكل لديه اهتماماته ومتطلباته ومصالحه، في وقت يحتاج لبنان إلى عناية مركزة غير قابلة للتحقق، فلبنان فقد دوره فعلياً وواقعياً، ولإيجاد دور ما يعيده إلى المجتمع الدولي يتطلب الكثير الكثير داخلياً وإقليمياً ودولياً، في وقت يتهيأ بنوه لحفلة صدام أهلي سيمتد كثيراً، بعد سلم أهلي بارد لم يبنِ وطناً ولا سلطة.