لم ينتظر النظام الإيراني طويلا، بعد أول أيام الغزو الأميركي، ليفتح حدوده مع العراق، ويبدأ بضخ الأمواج البشرية المسلحة الطائفية المتطرفة التي كان قد أنشأها في أحضانه أيام حربه مع العراق 1980 - 1988، بكامل سلاحها الثقيل والخفيف، بذريعة أنهم عراقيون كانوا أسرى ومهجّرين، ويعودون إلى بلادهم.

ومكافأة له على تعاونه العميق مع الولايات المتحدة الذي سهَّل لها غزو العراق كانت الجيوش الأميركية تغضُّ النظر وتتسامح وتسهّل له مقاسمتها في احتلال العراق، بعد أن عجز عن ذلك في حربه الضروس التي دامت ثماني سنوات فقَد فيها مئات الآلاف من أبنائه، وكل ثرواته، دون أن يفلح في الانتصار.

وبتقيّةٍ بالغة راح يبرّر احتضان الميليشيات وتسليحها وتزويدها بالخبرة القتالية والسياسية، بمزاعم وشعارات دينية مذهبية تمكن من تمريرها على المتدينين الشيعة العراقيين، وخصوصا منهم السذج البسطاء الذين صدقوا أن سلاح الميليشيات وحروبها التهجيرية والترويعية، وحملات القتل والإخفاء القسري التي تمارسها ضد الآلاف من سكان مدن وقرى سنية حول بغداد وفي ديالى والأنبار وصلاح الدين، تارة بحجة أنهم صدّاميون، وأخرى دواعش إنما يحمي تشيعهم من غدر أحفاد يزيد، ويعجل بقيام دولة الإمام الغائب التي لن تقوم إلا بإسقاط أنظمة الحكم الكافرة، وتحرير القدس، ومحو إسرائيل.

ولكنّ هؤلاء المستغفلين كانوا قلة. أما الغالبية العظمى من العراقيين الآخرين، شيعة وسنة، عربا وغير عرب، مسلمين ومسيحيين، فقد كانت واعية ومتيقنة من أن هدفه الحقيقي المخفي هو تنفيذ وصية الخميني بضرورة احتلال العراق والزحف منه إلى دول المنطقة الأخرى، لاحتلالها، أو تركيعها، وصولا إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، وخليج عدن، وبحر العرب، وخليج عمان، والخليج العربي، وإعادة إحياء إمبراطورية فارس التي هدّمها العرب قبل ألف وأربعمئة عام.

ولا يُنكر أن هيمنة السلاح الإيراني أحدَثَت شقوقا عميقة في اللحمة الوطنية العراقية، وشجعت على توسيع وتعميق وتدوير فساد الطبقة الحاكمة، وانهيار الخدمات، وتدهور الحياة المدنية والأمنية والصحية والاقتصادية والثقافية والتعليمية، بهدف إنهاك الدولة وتفتيتها وإنهاك شعبها وتعجيزها عن الثورة ضد احتلاله في يوم من الأيام.

ولكن نتائج الانتخابات الأخيرة كشفت أن أكثر العراقيين رفضا للاحتلال الإيراني، وإصرارا على الخلاص منه، هي الأوساط الشيعية التي كان يروج لكذبة كونها الحاضنة المذهبية المخلصة لاحتلاله. فقد برهنت، بالتظاهرات والانتفاضات والاعتصامات والنشاطات الأخرى الشعبية المتواصلة، على أن ثوابت المجتمع العراقي القائمة على الاستقلالية المتوارثة تبغض الوجود الإيراني، وترفضه، وتصرّ على مقاومته والخلاص منه، رغم كل قوافل الشهداء والجرحى والمغيّبين التي كانت تقدمها في مواجهتها البطولية مع وكلائه، وهي تهتف، (وعَد وعد، إيران ما تحكم بعَد).

ولقد ظهر ذلك بكل وضوح في خسارة أحزابه الكبيرة ذات النفوذ الحكومي والميليشياوي والمالي والعسكري غير المحدود، مقابل فوز مرشحين أفراد مستقلين لم يملكوا للإنفاق على دعاياتهم الانتخابية سوى بضعة دنانير.

أكبر نعمة أهدتها لنا الانتخابات العراقية الأخيرة أنها أثبتت للعراقيين واللبنانيين والسوريين واليمنيين، تحديدا، أن الوجود الإيراني في العراق، رغم كل بيادر سلاحه، وكل جبروته وأساليبه القمعية الهمجية، نمرٌ من ورق، ونقطة في بحر المجتمع العراقي الأصيل

والأكثر تدليلا على عمق الكراهية التي يكنّها العراقيون له ولأحزابه وميليشياته أن الغالبية العظمى من حمَلة سلاح الحشد الشعبي والفصائل المسلحة الولائية التي كان يُعتقد بأنها خالصة الولاء له ولخدمته تمنعت، وتكبّرت، وتجبّرت، وأدارت ظهرها له، وأعطت أصواتها لخصومه المستقلين وللقادمين من ساحات انتفاضة تشرين.

ومن هنا يتأكد لمن يريد أن يدقق في حقيقة الوجود الإيراني في العراق وحدودِه أن جميع الجراح التي أحدثها الإيرانيون ووكلاؤهم العراقيون في المجتمع العراقي ظلت جراحا سطحية خارجية لم تنفذ إلى ما وراء هذا المجتمع العصيّ على الاختراق، وستشفى بأسرع مما يتوهمون.

فقد ظلَّ وجودهم في جميع المناطق العراقية، خصوصا في محافظات الوسط والجنوب المتهمة بأنها إيرانية الولاء، محصورا في كتائب الحشد الشعبي والفصائل المسلحة الأخرى، وفي أجهزة الحكومة المهمة ومؤسساتها السيادية، وفي شرائح (شعبية) محدودة معزولة ربطت نفسها بالوجود الإيراني، إما جهلا أو احتياجا لمصدر ارتزاق.

وأهم ما أظهرته القراءة المتأنية لنتائج الانتخابات النهائية أن ثلاثة أرباع الشعب العراقي قاطعت هذه الانتخابات، وأن الربع الباقي ذهبت أكثرية أصواته لجهات غير مملوكة لإسماعيل قاآني، بل لمجاميع أخرى معادية له ولأتباعه الولائيين.

ولو حدثت معجزة وأعيدت الانتخابات، وتراجع المقاطعون عن مقاطعاتهم، لخرج وكلاؤه، جميعُهم، من المولد بلا حمص، ولشاهد العالم كبارَهم وصغارهم وراء القضبان يحاكمون على جرائم ثماني عشرة سنة دامية لا تغتفر.

ثم، من أهم منافع الانتخابات الأخيرة، رغم كل نواقصها وعيوبها، أنها أسقطت الأكذوبة القائلة بأن السلاح الإيراني موجود في العراق للدفاع عن الطائفة الشيعية وحفظ حقوقها.

فقد جاء تهديد “تنسيقية الفصائل المسلحة” الخاسرة في الانتخابات باللجوء إلى “القتال في حال تم المساس بالمتظاهرين الرافضين لنتائج الانتخابات” ليفضح أن هذه الميليشيات لن تتورّع عن حرق البلاد والعباد، عندما يأمر الولي الفقيه، حين تتعرض مصالحهم إلى خطر، مع العلم أن أغلب المغضوب عليهم من أعدائها الفائزين في الانتخابات هم من أهل محافظات الطائفة الشيعية، تحديدا.

فقد قالت التنسيقية في بيان لها “نحذر تحذيرا شديدا من أن أيّ محاولة اعتداء أو مساس بكرامة أبناء شعبنا في الدفاع عن حقوقهم، وحفظ حشدهم المقدّس، فضلا عن إخراج القوات الأجنبية من بلدهم، فإنها سَتُواجَه برجال قُلُوبُهُمْ كَزُبَرِ الْحَدِيدِ، وقد خَبِرَتْهُم سوحُ القتال، ولاتَ حين مندم”.

ولكن أكبر نعمة أهدتها لنا الانتخابات العراقية الأخيرة أنها أثبتت للعراقيين واللبنانيين والسوريين واليمنيين، تحديدا، أن الوجود الإيراني في العراق، رغم كل بيادر سلاحه، وكل جبروته وأساليبه القمعية الهمجية، نمرٌ من ورق، ونقطة في بحر المجتمع العراقي الأصيل.

وشكرا لكم، وبلا حدود، يا شباب انتفاضة تشرين، فقد لو يتُم ذراع هذا النظام المنخور من داخله، وأعدتم إلى شعبكم الأمل في خلاصٍ قريب.