ماذا يريد إيريك زمور هذا الصحافي المشاكس والكاتب الناجح الذي تبلغ مبيعات كتبه مئات الآلاف والمنحدر من أصول جزائرية يهودية، والذي يزعزع اليوم الطبقة السياسية الفرنسية، من يمينها إلى يسارها، ويفرض نفسه على وسائل الإعلام المستقلة التي لم تعد تستطيع التطرق لموضوع الانتخابات الرئاسية القادمة دون ذكر اسمه. أما وسائل الإعلام التابعة للقطاع العمومي، فلا تذكر اسمه ولا تستضيفه على الإطلاق بأمر من لوبيات أيديولوجية.
ما هي الأفكار التي يريد أن يصل عبرها هذا الشبح “المخيف” إلى قصر الإليزيه؟ ولماذا ينوي الكثير من الفرنسيين التصويت لصالحه، إذا ما صدقنا استطلاعات الرأي الأخيرة التي تتكهن بوصوله إلى الدور الثاني، وتحدي الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون في انتخابات شهر مايو؟
لئن بدت أقوال زمور جديدة وجريئة فهي في حقيقة الأمر قديمة قدم الحركة اليمينية المتطرفة في فرنسا. أصبحت صادمة بسبب تناقلها عبر وسائل التواصل الاجتماعي وبسبب المبالغة في جرّ زمور إلى المحاكم. وما أعطى لتلك الأفكار قوة وشعبية هو شخصية الرجل الهادئة، ولغته الفرنسية المتماسكة، وعودته المتكررة إلى ذكر أحداث التاريخ الفرنسي، وتطعيم خطابه بمقولات رجالات فرنسا وكتابها وفلاسفتها.
على أرض الواقع جلب زمور الكثير من إطارات ومناضلي “التجمع الوطني”، وينتظر أن يلتحق أغلب التجمّعيين بالمرشح زمور، وهو ما شجعه للقول دون تردد إن مدام لوبان لا يمكنها الفوز أبدا
وما يضفي على حديثه نوعا من السلطة العلمية، مقارنة بالصحافيين والسياسيين الآخرين، معرفته العميقة بالإسلام وتاريخه وانتقاده الشديد للإسلاميين وعلى رأسهم الإخوان المسلمين، إذ فضح مشاريعهم بجرأة واعتبرهم السمّ القاتل الذي يسري في عروق الدولة الفرنسية.
يمكن تلخيص خطاب زمور في قضايا عامة، أهمها أن فرنسا تسير في طريقها إلى الانهيار بسبب استمرار سياسة استبدال الشعب الفرنسي بالأجانب بتواطؤ النخب المستقيلة. من كانوا مستعمرين من العرب والأفارقة بالأمس هم الذين يستعمرون فرنسا اليوم. ويرى زمور أن مقدمات الحرب الأهلية التي تجري في ضواحي باريس، في سان دويني بالتحديد، هي المستقبل الذي ينتظر فرنسا إذا لم يتحرك الفرنسيون للدفاع عن بلدهم.
لا يملّ زمور من القول إنه لا يمكن فعل أي شيء من ذلك دون وجوب الاعتراف بأن الإسلام دين لا يتوافق مع قيم الجمهورية الفرنسية، لأنه دين ودولة في آن، وتبعا لكل هذا يجب وضع حد للهجرة تماما. ولا ينبغي إعطاء أدنى اهتمام للتشريعات الوطنية والأوروبية التي تحدّ من سيادة الشعب الفرنسي على أرضه وأسبقيته.
ويذهب زمور حتى إلى المطالبة بإلغاء حق الجنسية الذي اكتسب عن طريق الولادة على التراب الفرنسي، في حالة ارتكاب جريمة فظيعة. وإلغاء قانون لمّ الشمل، بمعنى حظر جلب الزوجة أو الزوج أو الأولاد من الخارج للعيش في فرنسا. علاوة على تصعيب الحصول على حق اللجوء، ووجوب فرض الاندماج الكامل على المهاجرين الذين حصلوا على الجنسية الفرنسية.
ولا يضيّع زمور أي فرصة أمام ميكروفون أو كاميرا دون احتقار النخب السياسية والإعلامية والثقافية، بسبب ما يسمّيه عمالتها ونكرانها لما يحدث على أرض الواقع من اعتداء على فرنسا من طرف الأجانب المسلمين منهم على وجه الخصوص.
وفي الحقيقة لم يهبط زمور من السماء بل هو نتيجة لتقاطع تأثيرين كبيرين: الهوية القومية التي تبلورت في نهاية القرن التاسع عشر، والنزعة الشعبوية الحالية التي تنامت مع دونالد ترامب في الولايات المتحدة، وفيكتور أوربان المجري في أوروبا وغيرهما.
ليس صدفة أن يكون عنوان كتاب زمور الصادر مؤخرا “فرنسا لم تقل كلمتها الأخيرة”، وكأنه صدى لكتاب رئيس حزب الجبهة الوطنية السابق جان ماري لوبان المعنون: “وتعود فرنسا” والمنشور سنة 1985.
والقومية كشعور وعقيدة نشأت مع الثورة الفرنسية وحملها اليسار الجمهوري الليبرالي لفترة طويلة إلى درجة أصبحت دعوة عالمية. ولكن في نهاية القرن التاسع عشر تبلورت قومية ذات طبيعة مختلفة، تشترك مع الأولى في وطنيتها القوية مصحوبة ببعد احتجاجي ومعتمدة على شعبوية باحثة عن “منقذ” مع انتقاد شديد للنظام البرلماني، ممزوج بتمجيد للهوية وبعداء صريح للأجانب ورؤية لفرنسا مطهّرة من اليهود والبروتستنت والماسونيين. وهي قومية يتبناها اليوم اليمين المتطرف بكل تنويعاته، تركت بصماتها على النقاش السياسي الفرنسي وتعاود الظهور باستمرار كلما كان البلد يعيش مشاكل وأزمات أو محن.
وقد تم طرح فكرة تهديد المهاجرين للهوية الفرنسية بنفس الأسلوب والكلمات من طرف حزب الجبهة الوطنية بزعامة جان ماري لوبان، والذي تشرف عليه اليوم الابنة مارين لوبان، التي حاولت الانتقال به إلى مرحلة أخرى أقل راديكالية ونزع صفة التطرف الزائدة عنه، وذهبت حتى إلى تغيير اسم الحزب إلى “التجمع الوطني”.
ومع سطوع نجم زمور كمثقف احتجاجي مناهض للنخب السياسية المحترفة وآتٍ من خارج الفضاء السياسي التقليدي، وفي تناغم مع موجة “ارحلوا جميعا” التي مسّت أوروبا والعالم بأسره في السنوات الأخيرة، كان من الحتمي أن تصبح مارين لوبان أمامه مجرد امرأة سياسية من الحرس القديم يجب أن ترحل كغيرها.
وعلى الرغم من أنه لم يفصح عن ترشحه للانتخابات الرئاسية بعد، إلا أن استطلاعات الرأي تضع إيريك، المثقف الآتي من ضاحية فقيرة، أحسن تمركزا من السياسية المحترفة مارين التي ورثت حزبا سياسيا عن أبيها، وقد يحرمها من الصعود إلى الدور الثاني اعتمادا على نفس الأفكار التي اجترتها وأبوها منذ زمن طويل.
لئن بدت أقوال زمور جديدة وجريئة فهي في حقيقة الأمر قديمة قدم الحركة اليمينية المتطرفة في فرنسا. أصبحت صادمة بسبب تناقلها عبر وسائل التواصل الاجتماعي
وعلى أرض الواقع جلب زمور الكثير من إطارات ومناضلي “التجمع الوطني”، وينتظر أن يلتحق أغلب التجمّعيين بالمرشح زمور، وهو ما شجعه للقول دون تردد إن مدام لوبان لا يمكنها الفوز أبدا. وهي دعوة إلى ما تبقى من مناصريها للالتحاق به.
وإذا ما استمرت الأمور على هذه الديناميكية فلن يجمع التجمع الوطني في الأيام القادمة إلا مارين وحاشيتها المقرّبة وحتى الأب المؤسس جان ماري لوبان صرح بأنه سيصوت لصالح زمور.
أما اليمين “غير المتطرف” الممثل بالجمهوريين فلا يزال غارقا في تمزّقات زعمائه مثل اليسار، وهو ما يفتح الطريق لبقاء ماكرون في الإليزيه لعهدة ثانية. الأصوات التي منعت مارين لوبان وأباها من الوصول إلى الحكم في فرنسا هي التي ستمنع إيريك زمور أيضا.
التعليقات