بعد يوم واحد من مشاركته مع وفد أعيان الزاوية في اجتماع مع رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، عاد محمد بحرون المعروف باسم “الفار” والذي يشغل منصب آمر كتيبة الإسناد الأمني رغم أنه ملاحق من النائب العام، ليتزعم مساء الاثنين اشتباكات أدت إلى مقتل وإصابة عدد من المسلحين في الزاوية، وجعلت المدينة تعيش ليلة رعب كان يُعتقد أنها ذهبت مع زمن الفوضى، لكن “الفار” الذي كان خلال الأشهر الماضية وراء معارك في العجيلات وورشفانة يبدو أنه فوق القانون، وهو ليس الوحيد في هذا المنحى، فأمراء الحرب عموما لا يزال لديهم ولع بالحروب، ويعتبرون أن أية انتخابات قادمة لن تنتظم، وإذا انتظمت فإنها لن تحقق أهدافها في إعادة بسط نفوذ الدولة على إقليمها، وقد يكون الانقلاب على نتائجها سهلا كما كان الأمر في صيف 2014 عندما تمردت منظومة فجر ليبيا على نتائج الاستحقاق التشريعي، وقادت صراعا أدى إلى انقسام البلاد سياسيا واجتماعيا لمدة سبع سنوات.

إن المواجهات العسكرية في غرب ليبيا الخاضع لهيمنة الميليشيات المسلحة ذات التوجهات المختلفة والمرجعيات المتعددة، وللتدخل التركي المباشر، قد تكون آخر أداة يتم الاعتماد عليها لتأجيل الانتخابات بدعوى الافتقاد إلى الظروف الأمنية الملائمة، وهو ما يطمح إليه الساعون بالفعل لعرقلة الحل السياسي، ومن بينهم قوى الإسلام السياسي وما يصف نفسه بالتيار الثوري، وأصحاب نظرية المدن المنتصرة في 2011، والراغبون في التمديد للسلطات الحالية، وبالأساس لحكومة الوحدة الوطنية، ممن يعتقدون أن الانتخابات قد تفتك مقاليد الحكم والامتيازات المالية والاقتصادية والسياسية.

أخطر ما يمكن أن يتم خلال الأسابيع القادمة هو إطلاق العنان للميليشيات لتعبث بالأمن العام والسلم الأهلي على غرار ما فعل "الفار" في الزاوية

هناك اليوم في ليبيا صراع حقيقي لم يعد خافيا على أحد، فالمفوضية العليا المستقلة للانتخابات تستند إلى دعم أممي ودولي في السير نحو تنظيم الاستحقاق، وهي تعتمد على القرارات الصادرة عن مجلس الأمن ومخرجات مؤتمري برلين 1 و2، وكذلك على القوانين الصادرة عن مجلس النواب، وعلى تطلعات المجتمع الليبي، ولكن تحركاتها تصطدم بغضب مكتوم من قبل أطراف لا تريد للاستحقاق أن يتم، وعلى رأسها الطرف الحكومي والتحالف القائم من حوله، والذي يتصرف في ثروة الليبيين بشكل غير مسبوق، ويتلاعب بالأرقام كما يشاء، ومجلس الدولة الاستشاري الذي لا يزال غير مقتنع بتنظيم الانتخابات، وجماعة الإخوان المنقسمة على نفسها بين داعين إلى مجاراة المجتمع الدولي والبحث عن تحالفات داخلية ولاسيما مع رموز النظام السابق، وبين رافضين لمبدأ التوجه إلى صناديق الاقتراع طالما أن لا مؤشرات على فوزهم بالنتائج.

سعى رئيس الحكومة المهندس عبدالحميد الدبيبة المشدود بقوة جاذبية الكرسي لإقناع المجتمع الدولي بأن الوقت غير مناسب لتنظيم انتخابات حرة ونزيهة، وحاول الوصول إلى نتيجة إيجابية خلال مؤتمر دعم استقرار ليبيا في الحادي والعشرين من أكتوبر، ولكنه اصطدم بإصرار الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبعض الدول الإقليمية على تنظيم الاستحقاق في موعده، وقد وصل الضغط إلى المجلس الرئاسي، وكانت الرسائل واضحة بأنه لا مجال للحديث عن أية مبادرة الهدف منها إقصاء هذا الطرف أو ذاك، أو لإصدار أي إعلان دستوري قد يعيد الأوضاع إلى مربع الصراع الأول في البلاد. فشل المنفي في إقناع قوى الشرق بخياراته، وعاد من طبرق إلى طرابلس خالي الوفاض، وعندما تم تهميش مفوضية الانتخابات في مؤتمر دعم الاستقرار اضطر رئيسها الدكتور عماد السايح للاجتماع مع الوفود الدولية في مطار معيتيقة.

ربما كانت وزيرة الخارجية نجلاء المنقوش الطرف الأكثر نجاحا لأنها كانت الأكثر وضوحا في لقاءاتها مع الوفود الأميركية والأوروبية والعربية، وهي من أنصار تنظيم الانتخابات في موعدها، ولديها صورة واضحة عن كل مجريات الأحداث، وربما يأتي يوم تنشر فيه مذكراتها، وتكشف عما شاهدته خلال الأشهر الماضية من تناقضات الصراع في طرابلس وألاعيب السياسة والمصالح والتحالفات والمؤامرات.

المشكلة الحقيقية في ليبيا هي أن ما يدور في العلن لا يساوي شيئا مما يدور في الخفاء، وأن الصراع الحقيقي حول السلطة مرتبط أساسا بملفي الثروة والسلاح. ربما من سخرية القدر أن الزعيم الراحل معمر القذافي كان يرفع شعار السلطة والثروة والسلاح بيد الشعب، وما إن تمت الإطاحة بنظامه حتى أصبح هذا الثالوث في يد أطراف لا تعترف بالشعب. وتلك الأطراف هي التي لا تزال تتصارع في ما بينها من أجل الحفاظ على مصالح كل طرف منها، وهي التي لن تترك البلاد تخرج من أزمتها إلا في حالة توصلها إلى اتفاق لتقسيم الغنيمة بالمساواة أو وفق توازنات القوى.

في الشرق هناك الجيش الوطني الليبي الذي يرتبط اسمه باسم المشير خليفة حفتر الطامح للوصول إلى كرسي الرئاسة، وهو اليوم يتحرك في صورة يحاول من خلالها التماهي مع شخصية صديقه اللدود سابقا الراحل معمر القذافي، سواء كقائد عسكري أو كشيخ قبيلة أو كزعيم شعبي، ومن حوله مستفيدون يدقون الدفوف وينثرون البخور، وفي المقابل يبدو الدبيبة الذي يرغب في أن يكون الوريث الشرعي لمشروع سيف الإسلام القذافي، ولاسيما أن علاقته بمفاتيح الخزينة تبدو جيدة وهو الذي تسيطر عليه صورة رجل الأعمال الذكي الباحث عن دور أكبر في السلطة والسياسة ولمدة غير محدودة.

الدبيبة والمتحالفون معه لا يريدون لحفتر الترشح للانتخابات ولا يتخيلون أن يفوز فيها، وهناك طيف كامل يرفض من حيث المبدأ أن تذهب السلطة المركزية إلى خارج مصراتة المهيمنة على أغب مراكز النفوذ في طرابلس، وعندما سيعلن المشير عن ترشحه قبل الخامس عشر من نوفمبر القادم، سيدخل المشهد السياسي في “حيص بيص”، وسيخرج علينا من يقول إنه لن يعترف بالنتائج، والأمر ذاته يتصل بسيف الإسلام الذي قد يخرج على أنصاره ببيان مصور يعلن فيه أنه لن يترشح ولكنه سيدعم أحد رموز النظام السابق، والذي قد يكون الدكتور محمد أحمد الشريف، وهو شخصية تحظى بثقة أغلب الليبيين.

المواجهات العسكرية في غرب ليبيا الخاضع لهيمنة الميليشيات المسلحة ذات التوجهات المختلفة والمرجعيات المتعددة، وللتدخل التركي المباشر، قد تكون آخر أداة يتم الاعتماد عليها لتأجيل الانتخابات

ليس من السهل أن يتخلى أمراء الحرب عن مصالحهم، ولا ديناصورات السياسة عن امتيازاتهم، ولا لصوص المال العام وأباطرة الاعتمادات عن مفاتيح خزينة مكاسبهم، ولا الإخوان والسائرون في فلكهم عما حققوه في منظومة التمكين، ولكن من المعقول أن يدرك المجتمع الدولي أنه أخطأ عندما قرر أن يراهن على تنظيم الانتخابات في بلد لا يزال منقسما على نفسه تحكمه الميليشيات، ويدار من قبل الحيتان الكبيرة والقطط السمان، وتتموقع فيه القوات الأجنبية وجحافل المرتزقة.

أخطر ما يمكن أن يتم خلال الأسابيع القادمة هو إطلاق العنان للميليشيات لتعبث بالأمن العام والسلم الأهلي على غرار ما فعل “الفار” في الزاوية، فالضغط الدولي من أجل تنظيم الانتخابات قد يؤدي إلى انفجار الوضع الأمني بواسطة الانتخابات، وكما يقال فإن الضغط يولد الانفجار، أما المجتمع الدولي فله دروس مستفادة في أفغانستان والعراق واليمن، وهو قد يقرر ما يشاء، ولكن تأثيره على الأرض يبقى أقل من أن يُعوّل عليه جديا.