إلى أين من هنا في الأزمة السودانية بعد فض شراكة السلطة الانتقالية بين المكونين المدني والعسكري؟
بأي سيناريو ممكن تصعب العودة إلى الشراكة بالصورة التي كانت عليها قبل حل مؤسسات المرحلة الانتقالية. الشراكة مسألة توازن في القوة لا مسألة عطف وإحسان.
عندما يغيب التوازن تتقوض فكرة الشراكة كلها.
التوصل إلى تسوية سياسية للأزمة ممكنة واستئناف الحوار بين المكونين المدني والعسكري دون شروط مسبقة يكتسب جدواه وواقعيته.
بإرث التاريخ فإن الصدام بين المدنيين والعسكريين ليس جديداً، ولا مستغرباً. التاريخ ماثل في المشهد المأزوم، لكنه لا يعيد نفسه، فهناك أحوال جديدة وحسابات مختلفة لموازين القوى والضغوطات الدولية لا يمكن تجنب كلمتها.
على مدى خمسة وستين سنة تعاقبت على الحكم تجارب مدنية باسم الديمقراطية والتعددية تتلوها انقلابات عسكرية باسم الأمن والاستقرار، قبل العودة مرة أخرى إلى تجارب مدنية جديدة تلقى المصير نفسه.. كأننا أمام باب دوار جيئة وذهاباً- كما يقول السودانيون.
لم يقدر للحكم المدني الأول، الذي أعقب إعلان الاستقلال مطلع عام (1956)، أن يستمر لأكثر من عامين على خلفية صراعات حزبية وطائفية استدعت الانقلاب الأول بقيادة الفريق «إبراهيم عبود».
جرت وقائع الانقلاب الأول بإيعاز من رئيس الحكومة المدنية «عبدالله خليل» لقائد الجيش أن يستلم السلطة حسب شهادات ووثائق سودانية ثابتة.
بعد ست سنوات تقوض حكم الفريق «عبود» بانتفاضة شعبية واستلمت السلطة حكومة انتقالية مدنية شكلتها جبهة «الهيئات». كان ذلك عام (1964).
امتد الحكم المدني الثاني لست سنوات أخرى انتهت بانقلاب عسكري ثانٍ بقيادة العقيد «جعفر النميري» عام (1969).
كان التخبط السياسي وتغيير الحكومات على فترات قصيرة متعاقبة أحد المحركات الرئيسية لانقلاب «نميري»، الذي أزاح «الديمقراطية الثانية» بتحالف مع قوى سياسية يسارية وقومية قبل أن ينقض عليها وينقل دفة تحالفاته إلى التيارات الإسلامية.
بعد ستة عشر عاماً انقضى عهد «نميري» بانتفاضة شعبية ثانية أفضت إلى انقلاب ثالث عام (1985) قاده وزير الدفاع «عبدالرحمن سوار الذهب»، الذي قرر من اللحظة الأولى اختصار المرحلة الانتقالية وتسليم السلطة لحكومة مدنية منتخبة.
لم تنجح «الديمقراطية الثالثة» في ترسيخ دولة القانون والمؤسسات وحل معضلات المجتمع السوداني بكل تنوعه العرقي واحتياجاته المعيشية.
بانقلاب رابع وصل العميد «عمر البشير» إلى السلطة عام (1989) برعاية وتخطيط وتنفيذ «الجبهة الإسلامية القومية» التي يتزعمها «حسن الترابي».
بعد عشر سنوات أطاح «البشير» براعيه ونكّل به، لكنه حافظ على الهوية الأيديولوجية للنظام بقدر ما تسمح مصالحه.
في المراوحة بين نظم حكم مدنية لم تستقر قواعدها ولا ترسخت أصولها الديمقراطية ولا أضفيت عليها نظرة حديثة.
قبل إطاحة «البشير» أخذ العمل الشعبي الاحتجاجي مدى غير مسبوق، لكنه لم يكن بوسعه حسم سؤال السلطة بمفرده.
طرحت للمرة الأولى في التاريخ السوداني مسألة «الشراكة» بين المدنيين والعسكريين كمرحلة انتقالية إثر الانقلاب الخامس على «البشير» تمهيداً لنقل السلطة كاملة لحكومة مدنية منتخبة.
كان أحد السيناريوهات الرئيسية، التي طرحت نفسها مبكراً، تبني خيار الفريق «عبدالرحمن سوار الذهب»، باختصار المرحلة الانتقالية قبل انتخاب حكومة مدنية بأسرع وقت ممكن.
استبعد ذلك الخيار بذريعة أن مهام المرحلة الانتقالية تتطلب وقتاً أطول، ومالت أغلب قوى «الحرية والتغيير» إلى أن تمديدها يساعد على تكريس نفوذها السياسي وكسب الانتخابات النيابية عندما يحين وقتها.
كان ذلك رهاناً خاطئاً، فقد دبت داخل قوى «الحرية والتغيير» الصراعات التي وظفت لضرب فكرة الثورة نفسها وخفت في الوقت وزنها السياسي في الشارع تحت وطأة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية.
لم تكن الحقائق الأساسية خافية على أحد عند خط البداية، فقد اضطرت «قوى الحرية والتغيير» إلى طلب مهلة يومين إضافيين حتى تعدل بالحذف والإضافة في قائمة ممثليها لمجلس السيادة؛ حيث امتلكت بعض أطرافها حق الفيتو على أسماء بعينها، أو على تجاوز القواعد المتفق عليها في الاختيار.
في نهاية المطاف لم يكن الاختيار متسقاً مع أحد المبادئ الرئيسية وهو رفض المحاصصة الحزبية والجهوية وأن يقتصر الاختيار على الكفاءة وحدها. لاعتبارات عملية كان ذلك شبه مستحيل في أوضاع تحكمها الجهويات والصراعات المعلنة والمكتومة.
لم يكن يحق لأحد من قيادات «الحرية والتغيير»، أو «تجمع المهنيين»، حسبما اتفق وأعلن، أن يتولى أي موقع تنفيذي، سيادي أو وزاري، خلال المرحلة الانتقالية تجنباً لأية مشاحنات حزبية، أو أن تفتقد التحالفات تماسكها وقدرتها على الإشراف العام على مدى الالتزام بنصوص الوثيقة الدستورية.
طول المرحلة الانتقالية، كما تشققات قوة «الحرية والتغيير»، أفضت إلى اختلال التوازن بين المكونين المدني والعسكري.
التعليقات