تمتع العالم باستقرار نسبي لم تتخلله حروب عالمية مدمرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وترسخت العديد من المبادئ العامة والمسلمات في العلاقات الدولية استطاعت من خلالها الدول الصغيرة التعاطي مع المجتمع الدولي بشكل إيجابي يحفظ لها -نسبيا- حقوقها ويمنع تغول الدول الأكبر عليها.

مع الأسف يبدو أن هذا الاستقرار النسبي بدأ يحتضر لأن النظام العالمي يمر بمرحلة تحول من نظام أحادي هيمنت عليه الولايات المتحدة الأمريكية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، إلى نظام متعدد الأقطاب فيه اكثر من دولة تستطيع التأثير على هذا النظام العالمي ولم تتضح بعد ملامح وشكل النظام العالمي الجديد وهل سيغلب عليه الاستقرار أو الصدام.

وما بين ما يحمله الوضع الراهن من تحديات ومن دون الدخول في تفاصيل النظام العالمي المتحول، تتساءل الدول الصغيرة، ماذا عليها أن تفعل لكي تحمي نفسها من أطماع وتغول دول ذات نزعة توسعية هي أكبر منها بالإمكانات والمساحة؟

كانت الإجابة عن هذا السؤال سهلة في السابق، فكل ما عليها القيام به هو دخلوها في تحالف يضمن لها لأمنها واستقرارها. ولكن لم تعد الأوضاع بهذه البساطة مع دخول العالم مرحلة «نفسي ومن بعدي الطوفان» بسبب الفراغ الدولي وحدة التنافس وتوسع الصراعات التي تجاهلها المجتمع الدولي بدل معالجتها وتراجع المبادئ، لأصبحت العديد من الدول المؤثرة تفكر في مصالحها فقط من دون النظر لأية أضرار ممكن أن تتسبب بها لحلفائها أو شركائها عندما تسعى لتحقيق مصالحها الخاصة.

خذ على سبيل المثال «أمريكا بايدن» التي ترفع شعار العودة لقيادة العالم وإصلاح العلاقة مع أهم حلفائها -الاتحاد الأوروبي- لم تراعِ بل أضرت بمصالح فرنسا عندما اقتضت المصلحة الأمريكية الدخول في شراكة مع أستراليا وبريطانيا تسببت بإلغاء أستراليا صفقة الغواصات التي وقعتها مع فرنسا في العام 2016 وما تعنيه من خسائر مادية بالمليارات وغيرها من أضرار على سمعة ومكانة ومصالح فرنسا. وكذلك عندما اقتضت المصلحة الأمريكية -من وجهة نظر إدارة بايدن- الانسحاب الفوري -والفوضوي- من أفغانستان، لم تراعِ فيه أمريكا مصالح حلفائها اللذين شاركوها حربها ضد الإرهاب من دون تردد، فلم تعد أمريكا الحليف الموثوق فيه.

كذلك الحال بالنسبة لبريطانيا التي رأت أن مصلحتها القومية تفرض عليها الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، ولدينا تجربة أرمينا المريرة في حربها الأخيرة مع أذربيجان والتي لم يسعفها وجودها كعضو في التحالف العسكري لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي في أن ينصرها التحالف في الحرب أو أن يقف معها، ولا ننسى كيف تخلى حلف الناتو عن المادة 5 من نظامه الأساسي عندما لم تقف مع تركيا في صدامها مع روسيا بعد أن أسقطت تركيا مقاتلة حربية روسية تدعي أنها دخلت الأجواء التركية، وكيف تسبب موقف الناتو بتقارب تركي روسي لاحقا على حساب الناتو.

الأمثلة كثيرة لكيف أن مجرد دخول الدول الصغيرة في تحالفات لضمان أمنها واستقرارها ومصالحها لم يعد حلا كافيا أو مضمونا لمعضلتها المصيرية.

الحل اليوم هو بالعمل على الحصول على مزيج من الأدوات التي أصبحت ضرورة وجودية للدول الصغيرة، مثل تقوية وتعزيز مصادر نفوذها، فهي لن تستطيع التغلب على الدول الكبرى لكنها حتمًا تستطيع التأثير عليها إن امتلكت هذه الأدوات.

فمع ضرورة وأهمية الاستمرار بدخول في تحالفات إقليمية ودولية إلا أنها أيضا تحتاج أن تكون عنصرا مؤثرا ضمن هذه التحالفات، لا من خلال تأثيرها على من تخشى أطماعهم إنما حتى للتأثير على حلفائها لكي تعزز من فرص حماية مصالحها لا أن تطغى مصالح الدول الكبرى لدرجة الإضرار بمصالح الدول الأصغر. والمزيج المطلوب هو عدد من أدوات القوى الناعمة والذكية التي توازن فيها وتتغلب فيها على محدودية القوة التقليدية. ولا يوجد أهم أو أفضل من أربع أدوات أصبحت اليوم ركائز أساسية تحتاجها كل الدول وهي: القوة السيبرانية، والقوة الإعلامية، والقوة الاقتصادية، والقوة الدبلوماسية.

هذه القوى أو أدوات النفوذ تكمل بعضها البعض إن وجدت الاستراتيجية المناسبة لكيفية الحصول عليهم ومن ثم تفعيلهم بالشكل الصحيح الذي يعزز من مصالح ونفوذ الدول الصغيرة مهما كانت التحديات الإقليمية كبيرة ومقلقة. لذلك لابد على الدول الصغيرة أن لا تستصعب الطريق ولا التحديات، بل عليها أن تبدأ بوضع الاستراتيجية المطلوبة للحصول على هذه الأدوات الأربع حتى ولو بشكل متفاوت والعمل على البناء التراكمي عليها إلى أن تصبح أدوات فاعلة ومؤثرة في إقليمها وبعدها على النظام الدولي، وعلى الرغم من عدم وجود أمثلة كثيرة لدول صغيرة نجحت في تحقيق ذلك إلا أن هناك عددا محدودا منها نجح بشكل وبدرجات متفاوتة.

فمنها من ركز على القوة الإعلامية، ومنها من كانت الأولوية اقتصادية وبدرجات أقل بقية الأدوات، لكنها اليوم بالنسبة لكثير من الدول الصغيرة أصبحت قضية مصيرية ووجودية، فإما أن أسعى للحصول على هذه الأدوات الأربع مهما كانت إمكاناتي أو سأضطر للتعامل مع قضايا مصيرية من منطلق ضعف لا يضمن لي حقوقي ومصالحي.

إلى أن يستقر النظام الدولي الجديد على شكله ومبادئه التي ستعمل من خلالها العلاقات الدولية لتنظيم العلاقات بين الدول، يجب على الدول الصغيرة أن تعزز من قوتها الذاتية لتكون مؤثرة ونافعة لنفسها وحلفائها.