تتبادل باريس ولندن الاتهامات بانتهاك الاتفاق التجاري لما بعد اتفاق «بريكست» بشأن رخص الصيد في المياه البريطانية. لقد تفاقم الخلاف بعدما احتجزت فرنسا سفينة صيد بريطانية، وبالمقابل هددت بريطانيا بتفتيش سفن الصيد الفرنسية.

معروف أيضاً أنه في أيار/ مايو الماضي بدأت بريطانيا فرض قيود قاسية على سفن الصيد الفرنسية في الوصول إلى مناطق الصيد البريطانية، ما دفع نحو 100 سفينة فرنسية إلى التجمع في ميناء سانت هيلير في جزيرة «جيرسي» لتسجيل احتجاجها.

بالمقابل، ردت إنجلترا على هذه الخطوة بإرسال سفينتي حراسة تابعتين للبحرية الملكية لمراقبة ذلك الاحتجاج؛ الأمر الذي دفع فرنسا إلى إرسال زورقين حربيين إلى المياه المحيطة بالجزيرة المعنية، ما زاد من حدّة الخلاف بين البلدين، خاصة بعد إعلان فرنسا إجراءات مضادة شملت تشديد الضوابط والحظر على السفن البريطانية.

أزمة الغواصات ليست الأولى في تاريخ المنافسة بين البلدين، لكنها عبّرت بشكل غير مباشر عن عمق الأزمة بينهما، وصولاً إلى الحساسية المفرطة التي تطفو على السطح مع كل حدث، وذلك بسبب إرث من التاريخ الخلافي والصراع على زعامة القارة الأوروبية، إلى أن جاءت أزمة اللاجئين الذين يعبرون بحر المانش باتجاه بريطانيا لتزيد من حدة الأزمة بين البلدين.

لقد خلا بيان وزارة الخارجية الفرنسية من كل عبارات الدبلوماسية عندما وصف بريطانيا بالدولة صاحبة «الانتهازية الدائمة». من جانبه ردّ رئيس الوزراء البريطاني بشكل ساخر من خلال القول إن «حب بريطانيا لفرنسا لا ينضب»! وهو تصريح وضعته الكثير من التقارير الإعلامية البريطانية في باب السخرية السوداء، على اعتبار أن تاريخ العلاقات بين البلدين حافل بالأزمات وسوء الفهم الذي تكرّس في حقبة حساسة من العلاقات بينهما، منذ ما بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.

فقد انطلق ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا الأسبق من فكرة «أن بريطانيا صاحبة الإرث الإمبراطوري الكبير، هي في نفس المستوى مع أمريكا وأكثر شأناً من فرنسا؛ بل ومن أوروبا». هذه النظرة الاستعلائية لم ترق للرئيس الفرنسي الأسبق الجنرال ديجول الذي انتقد «هوس» البريطانيين بربط أفضل العلاقات مع أمريكا وإدارة الظهر لأوروبا، خاصة بعد رفض المملكة المتحدة الانضمام إلى اتفاقية روما عام 1957، لكن بريطانيا غيّرت رأيها وطلبت الانضمام للاتفاقية بعد سنوات؛ الأمر الذي رفضه ديجول واستعمل حق الفيتو ضد هذا الانضمام ليبقى الأمر معلقاً إلى سنة 1973.

كان ديجول لا يتقبل فكرة اعتبار أن بريطانيا هي استثناء في أوروبا، ويعتبرها «جزيرة معزولة محاطة بالمياه فقط». في المقابل حافظ رؤساء وزراء بريطانيا بعد تشرشل، وخاصة رئيسة وزراء بريطانيا سابقاً مارجريت تاتشر، على نفس النهج.

خلال الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 وقفت فرنسا وبريطانيا على طرفي النقيض مرة أخرى. ففي حين انضم رئيس الوزراء البريطاني توني بلير للتحالف الدولي بقيادة أمريكا لهذا الغزو، قادت فرنسا المعسكر الرافض للغزو. ويذكر التاريخ كلمات الرئيس الفرنسي جاك شيراك، أن «فرنسا تخبر أمريكا بالحقيقة كما يجب على أي صديق أن يفعل».

وستبقى محطة «البريكست» نقطة فاصلة في تاريخ العلاقات بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، ومرة أخرى ستظهر الندية العالية بين لندن وباريس، حيث كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من أشد المعارضين لتقديم أي تسهيلات لبريطانيا، وكان دائماً يلوّح بالخروج بدون اتفاق.

وظلت الدبلوماسية الفرنسية تتهم لندن بأنها تريد أن تستفيد لوحدها، وأن تضع الشروط التي تريد.