شكل العام 2021 عنوانًا محوريًا للحراك النهضوي المتسارع الذي تعيشه اليوم السعودية، على مختلف الصُعد، إلا أن المسار الأبرز في ظني يتمثل في إقامة أول مؤتمر فلسفي دولي من نوعه في الرياض الخضراء، الأسبوع الماضي، والذي نظمته وزارة الثقافة ممثلة في هيئة الأدب والنشر والترجمة، التي يحسب لها حيويتها في التماهي الإيجابي مع التفاصيل الفكرية والثقافية كافة، وعلى رأسها الفلسفة التي حال الوصال بينها وبين السعوديين أسباب كثيرة ليس المجال واسعًا لمناقشتها. رغم عدم حضوري فعاليات "مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة"، إلا أني حرصت على متابعة جلساته ومحاضراته والورش الفلسفية المتخصصة النوعية عبر قناة وزارة الثقافة على اليوتيوب (البث المباشر).

أهم ما نجح فيه المؤتمر أنه وضع القدم السعودية على خارطة الخطابات الفلسفية العالمية، ليس من جانب التنظيم فقط، بل في إيجاد منصة تفاعلية للفلسفة الدولية تنطلق من الأراضي السعودية لأنحاء العالم كافة، وربما اختزل الدكتور عبد الله المطيري، رئيس الجمعية السعودية للفلسفة هذا المؤتمر في كلمات معدودات "كان حلمًا وأصبح حقيقة"، بعبارة أخرى لقد أصبحت "الرياض" وجهة مستدامة لاجتماع العالم الفلسفي. ربما يتساءل البعض اليوم عن سبب اهتمام الحكومة السعودية بالأبعاد الفلسفية، وللإجابة على هذا السؤال المشروع أؤكد أن الفلسفة تسهم اليوم في تطوير الخطاب الإنساني العالمي، لذلك نجدها تدور حول الأسئلة الجوهرية، التي تتناول أبعاد "من نحن؟"؛ كأفراد، وكجزء من مجتمع أكبر، وهي الأسرة البشرية، وتتفحص موقع الفرد في العالم المحيط به، وتُفصّل سعيه نحو فهم ما يدور حوله، من أحداث كبرى، أو حتى الأمور الحياتية المعتادة، والمنطق الذي يُحرّك كل ذلك. بوضوح أكبر فإن الفلسفة تبحث في ماهية الجمال، باعتباره قيمة إنسانية مشتركة، إلى جانب بحثها في مفاهيم التعايش بين البشر رغم سعة الاختلاف. تظهر القيمة الدائمة للفلسفة في تطوير الفكر البشري في كل ثقافة وفي كل فرد، فهي تُعدّ اختصاصاً مشوقاً، كما أنها ممارسة يوميّة من شأنها أن تحدث تحوّلاً في المجتمعات. فهي تحث على إقامة حوار الثقافات إذ تجعلنا نكتشف تنوع التيارات الفكرية في العالم، وتساعد على بناء مجتمعات قائمة على مزيد من التسامح والاحترام من خلال التشجيع على إعمال الفكر ومناقشة الآراء بعقلانية، وهي وسيلة لتحرير القدرات الإبداعية الكامنة لدى البشرية من خلال إبراز الأفكار الجديدة، لذلك تُنشئ الفلسفة الظروف الفكرية المواتية لتحقيق التغيير والتنمية المستدامة وإحلال السلام. صحيح أن هذه الدورة هي الأولى للمؤتمر، إلا أنه سيشكل مستقبلًا من خلال المشاريع الفلسفية نقلة نوعية للخطاب الفلسفي السعودي والعالمي على حد سواء.. دمتم بخير.‬