لم أكن على علم وأنا أُُلقي محاضرتي الموسومة «فلسفة اللّاعنف» في جامعة ميسان - العمارة، جنوب العراق، أن صديقنا جان ماري مولر، كان يحتضر في باريس، وبعد يومين جاءني خبر رحيله (18 ديسمبر/ كانون الأول 2021). ولعلّها مفارقة حين علمت أن طلبة جامعة اللّاعنف (للدراسات العليا) في العالم العربي - بيروت، كانوا في الوقت الذي سبق وفاته بأسبوع توقّفوا عند إسهاماته الفكرية في بلورة رؤية جديدة وعصريّة لفلسفة اللّاعنف، وحاول أحد تلامذته البارزين في باريس الكاتب ألين ريفلو الذي حذا حذو مولر أن يسلّط ضوءاً كاشفاً على أصل كلمة اللّاعنف ومعناها واستخداماتها في الحضارات المختلفة، القديمة منها والجديدة، وما هو المعادل المستخدم فيها مثل «المقاومة المدنية» أو«المقاومة السلمية» أو«المقاومة السلبية»، وهو ما كلّف به طلبة اللّاعنف بإعداد قراءات وبحوث عن مولر وفلسفته منذ الستينات إلى اليوم، ولم يدر بخلدنا أن مولر سيغادرنا بهذه السرعة، ولم نتمكّن من وداعه بسبب ظروف جائحة كورونا وملحقاتها.
يعد مولر أهم فيلسوف معاصر للّاعنف؛ حيث ترك بصمة فكرية وثقافية مفاهيمية ونضالية عملية على ثقافة اللّاعنف وفلسفتها، رابطاً الفكرة بالتطبيق والنظرية بالممارسة، ليس في فرنسا فحسب؛ حيث بدأ أولى خطواته بالتمرّد وهو شاب عشريني؛ بل في العالم أجمع ومنه العالم العربي، وكانت له إسهامات عبر اليونيسكو؛ حيث تُرجمت بعض مؤلفاته إلى اللغة العربية، ومنها: قاموس اللّاعنف، استراتيجية العمل اللّاعنفي، اللّاعنف في التربية، ونزع سلاح الآلهة – المسيحية والإسلام من منظور فريضة اللّاعنف. وقد نعته الأوساط الفكرية والإنسانية والحقوقية والجامعية؛ حيث كان عضواً في مجلس أمناء جامعة اللّاعنف العالمي مع كوكبة لامعة من المفكرين بمن فيهم أربعة من الذين نالوا جائزة نوبل.
ويمكنني القول إن الفضل الأكبر يعود إلى جان مولر في الدعوة إلى فلسفة اللّاعنف على مدى نحو نصف قرن من الزمن، ويمكن اعتباره بعد المهاتما غاندي وعبد الغفّار خان ومارتن لوثر كينج ونيلسون مانديلا من تمسّك بخيار المقاومة المدنية السلمية اللّاعنفية خلال حياته، وإن كان اختار الثقافة حقلاً لنضاله وللتعبير عن أفكاره وآرائه؛ وذلك منذ أن رفض دعوة الحكومة الفرنسية لتجنيده في الجيش الفرنسي ليحارب المقاومة الجزائرية عام 1961، فامتنع عن الالتحاق بالخدمة العسكرية فسجن لمدّة 6 أشهر.
ومنذ ذلك التاريخ تولّدت لديه قناعات راسخة بأهمية الانخراط بالنضال ضدّ العنف ومقاومة كلّ شكل من أشكاله عبر نشر ثقافة اللّاعنف وسعى إلى تحويلها إلى فلسفة حياة وأسلوب عمل في الآن، جاعلاً الوسيلة جزءاً من الغاية، مقتفياً أثر غاندي الذي اعتبر الوسيلة إلى الغاية مثل البذرة إلى الشجرة، لأن شرف الغاية من شرف الوسيلة، فلا غاية نبيلة وعادلة من دون وسيلة نبيلة وعادلة، وكان قد توقّف عند فلسفة الروائي والمفكّر الروسي تولستوي ودعوته لعدم مقاومة الشر بالعنف ورفْض إطاعة أوامر الدولة التي تشجّع على العنف والقتل، وإظهار قبح الحرب بإظهار لا إنسانيّتها، خصوصاً من خلال ما يتعرّض له البشر من موت ودمار وآلام لا حدود لها، وهو ما صوّره على نحو درامي رائع في روايته الخالدة «الحرب والسلام».
اعتبر مولر أن اللّاعنف فريضة، لأنها تمنح الإنسان القدرة على الحبّ والتطهّر الروحاني وتقرّب البشر من بعضهم بما يعزّز المشترك الإنساني، بغضّ النظر إذا كانوا من المتديّنين أو غير المتديّنين، لأن الجميع يمكنهم العيش على نحو أفضل في ظلّ عالم ينحسر فيه العنف، ويزداد الطموح بأن يسوده السلام.
حين صدرت ترجمة كتاب مولر «نزع سلاح الآلهة»، سأله العديد من المعنيين من مفكرين وباحثين في بيروت وأربيل: لماذا لم تطلق على كتابك اسم «نزع سلاح الشياطين»؟ فأجاب مولر على الفور: الآلهة هم الشياطين، لأنهم من صنع البشر، أما الله فهو واحد يقوم على الرحمة والإنسانية، وهو المحبّة فكيف يكون عنفيّاً؟
ومثلما فهم تولستوي الأهمية العميقة لمقاومة الشر باللّاعنف، فإن مولر حاول أن يعلي من شأن اعتراض الضمير والدعوة إلى التمرّد على قرارات الدولة باستخدامها الحرب وسيلة لحلّ الخلافات أو اللجوء إلى العنف؛ حيث كان داعياً للحظر المطلق للحرب، وتحريم استخدام الأسلحة النووية، مبيّناً قوة اللّاعنف بوجه العنف. كما عارض عقوبة الإعدام.
يُعدّ مولر صديقاً حميماً للعرب بشكل عام، واللبنانيين بشكل خاص، وقد زار لبنان عدّة مرّات منذ عام 1990، ويعود فضل دعوته وتقديمه إلى العالم العربي إلى المفكّرين اللّاعنفيين أوغاريت يونان ووليد صليبي، كما زار سوريا والأردن وفلسطين والعراق محاضراً ومدرّباً ومحاوراً بشأن قضايا العنف في المنطقة.
التعليقات