بحلول عشية عيد الميلاد العام الماضي، كان البريطانيون قد ضاقوا ذرعاً ببريكسيت. فالمفاوضات التجارية كانت ما تزال جارية، والتفاصيل كانت جد مملة، والصورة الكبيرة كانت موضع لغط كثير لدرجة أنه لم يعد أحد يرغب في سماع شيء عنها. وفضلاً عن ذلك، جعلت الجائحةُ الطلاقَ بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي يبدو مؤلماً ومريراً. وعندما تسنَّى أخيراً التوصل لاتفاق، أعلن رئيسُ الوزراء البريطاني بوريس جونسون النصرَ وأغدق المديحَ على كبير مفاوضيه الحذق ديفيد فروست.
والآن يبدو أن جونسون نفسه هو الذي مل منه الناس وتعبوا. فبريكسيت لم تعد اليوم تلك الورقة الرابحة لرئيس الوزراء، كما أكدت ذلك الهزيمةُ الصادمةُ في دائرة نورث شروبشر التي صوتت لصالح بريكسيت في استفتاء يونيو 2016، وهو مقعد حافظ عليه المحافظون لنحو 200 عام. فهناك سيل عارم من الانتقادات بسبب سياسات رئيس الوزراء وقراراته. وفي ضربة قوية، استقال فروست الآن. وضمن رسالة استقالته، حثّ فروست جونسون على تحقيق «الفرص التي تتيحها لنا بريكسيت»، أي خلق اقتصاد ذي ضرائب منخفضة ومقنن بشكل أخف. غير أن بريكسيت فرضت تكاليف اقتصادية وفتحت خطوط صدع جديدة داخل حزب المحافظين باتت تهدد زعامة رئيس الوزراء. فخلال العام الماضي، توارت بريكسيت ضمن خلافات حول الأسماك، وأزمة المهاجرين، ونقص سائقي الشاحنات.. ثم سرعان ما انتقلت إلى الواجهة من جديد مع نقاشات حادة حول قواعد التجارة مع إيرلندا الشمالية، التي كانت تتمتع بوضع خاص في إطار الاتفاقية التي عقدها جونسون ويريد الآن تغييرها. تلك المفاوضات التي كانت تهدد بنسف الاتفاق التجاري برمته، ستمتد إلى العام المقبل.
والواقع أنه من الصعب فصل التأثير الاقتصادي لبريكسيت عن تأثيرات الوباء. لكن حين يتسنى استخلاص بعض الاستنتاجات، نجد أنه يتماهى مع ما تنبأ به مراقبون محايدون: أي أن الاتفاق لم يكن يمثّل وضعاً كارثياً بالنسبة للاقتصاد، لكن من السهل سماع صوت هسهسة هواء ينفلت من العجلات.
لقد تم تسويق بريكسيت بين البريطانيين من خلال تقديم وعد لهم بأن بريطانيا، إذا ما تحررت من قوانين الاتحاد الأوروبي ولوائحه، ستستطيع إبرام اتفاقيات تجارة حرة مربحة لإبعاد اقتصادها من العالم القديم الرتيب الذي على عتبة بابها وتقريبه من النمو الضخم لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ. وقد تفاخرت وزيرة التجارة السابقة ليز تراس (التي أصبحت وزيرة الخارجية) بنحو 70 اتفاقية في جعبتها، أغلبيتها الساحقة أعيد التفاوض حولها مع الاتحاد الأوروبي.
وفي ما يخص الاتفاقيات الجديدة التي أبرمت فعلياً، فإنها وفّرت فوائد إضافية متواضعة جداً. وعلى سبيل المثال، فإن اتفاقية المملكة المتحدة وأستراليا ما زالت بعيدة كل البعد عن تحقيق الهدف الطموح المتمثل في «بريطانيا عالمية»، ذلك أنها مصممة لتنفَّذ عبر مراحل على مدى 15 عاماً وستضيف 0,02% فقط إلى اقتصاد المملكة المتحدة على المدى الطويل. والاتفاقية التجارية بين المملكة المتحدة واليابان ستجلب نحو 0,07% من الناتج المحلي الإجمالي خلال 15 عاماً المقبلة، حسب تقديرات الحكومة نفسها. أما الاتفاقية التجارية بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، والتي قيل عنها الكثير، فما زالت تبدو بعيدة المنال ولم تلح في الأفق بعد.
التدفقات التجارية تأثرت أيضاً بالجائحة وباضطرابات سلاسل الإمداد، إلا أنه من الواضح أيضاً أن تدفقات التجارة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي قد تضررت كثيراً جراء بريكسيت. ففي أكتوبر الماضي، كانت الواردات إلى بريطانيا من البلدان التي من خارج الاتحاد الأوروبي أعلى من الواردات القادمة من الاتحاد الأوروبي للشهر العاشر على التوالي. وبالمثل، انخفضت الصادرات إلى بلدان الاتحاد الأوروبي، بينما ارتفعت الصادرات إلى البلدان التي من خارج الاتحاد الأوروبي. ومعلوم أن اقتصاد بريطانيا يقوم على الخدمات بالدرجة الأولى، لكن صادرات الخدمات إلى الاتحاد الأوروبي انخفضت بسرعة أعلى بمرتين من صادرات الخدمات إلى بقية العالم.
كان ديفيد فروست سياسياً لقي موقفه المتمثل في «السيادة أولاً» تأييداً بين أنصار بريكسيت في الحزب، لكنه لم يفعل شيئاً للدفع بمكانة بريطانيا في مرحلة ما بعد بريكسيت. ولدى جونسون الآن فرصة لتجريب نهج مدروس بعناية أكبر من أجل نزع فتيل بعض التوترات التي تراكمت خلال العام الماضي وإعادة بناء العلاقات. غير أنه لن يكون من السهل قيادة حزبه للنصر.
والواقع أن أي متتبع لمسار بوريس جونسون السياسي لا يستطيع التقليل من شأنه، لكن المأزق الذي يواجهه واضح: إنه لا يستطيع إرضاء جانب واحد من دون أن يُغضب الآخر، على الأقل ليس من دون مستويات نمو حقيقية عالية جداً. وقد كان تنفيذ بريكسيت موضوعاً كان يمكن للمحافظين أن يلتفوا حوله لبعض الوقت. لكن بعد مرور عام على ذلك، نرى الآن إلى أي مدى بات التعاطي مع نتائج بريكسيت مثيراً للانقسام.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة واشنطن بوست وبلومبرج نيوز سيرفس
التعليقات