شخصيات كثيرة من أبناء الإمارات أحاطت بالمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه، وعملت مع سموه بجد واخلاص وتفان قبل وفي أثناء وبعد تأسيس الكيان الاتحادي، فكان لها دور وإسهام في وضع اللبنات الأولى لنهضة الدولة. من بين هؤلاء معالي بطي بن بشر الذي حظي بثقة القائد المؤسس وكان قريبًا منه في مجالسه ومرافقًا له في رحلاته ومسؤولاً في ديوانه. أما ما ميز هذه الشخصية عن غيرها فهو سيرته المكتنزة بصور المغامرة والكفاح والاغتراب والتنقل والانخراط في أكثر من حقل منذ سنوات شبابه الأولى، وسط ظروف معيشية صعبة وتحديات سياسية واجتماعية كثيرة. وعليه فإن الحديث عن معاليه وسرد سيرته إنما هو سرد لجزء من تاريخ بلاده العزيزة، وحديث عما كابده رجالات زمنه من أجل النهوض بذواتهم ووطنهم.
في مقابلاته الصحفية تحدث معالي «بطي بن حميد بن راشد بن مصبح بن بشر المري الياسي» عن حياته ونشأته وتعليمه ومشواره مع العمل الحكومي والخاص فأخبرنا أنه من مواليد منطقة الراس بدبي في الثامن عشر من مايو 1941م، وأن والده «حميد بن بشر» كان من معاصري ومرافقي الشيخ سعيد بن مكتوم في بدايات الحرب العالمية الثانية وشغل منصب مدير جمارك دبي ما بين عامي 1939 و1944. أما جده «راشد بن مصبح» فقد كان صديقًا وملازمًا للشيخ بطي بن سهيل آل مكتوم الذي حكم دبي من عام 1906 حتى تاريخ وفاته عام 1912، وأيضًا صديقًا ومرافقًا لخليفة الأخير الشيخ سعيد بن مكتوم آل مكتوم الذي حكم دبي من عام 1912 وحتى انتقاله إلى جوار ربه في عام 1958، وعمل محكمًا ومصلحًا بين جماعات المنطقة المختلفة في النزاعات التي كانت غالبًا ما تنشأ بسبب المراعي والأراضي ومواسم الغوص وحوادث قطع الطرق وخلافها. أما جده الأكبر «بشر المري الياسي» فقد كان هو الآخر شخصية معروفة بدليل أنه تنسب إليه «دوغة بشر»، وهي منطقة صغيرة واقعة على ساحل أبوظبي قرب منطقتي «حصيان» و«غناطة».
نشأ بطي عند أخواله من آل الصيري في منطقة الشندغة، وبدأ مسيرته التعليمية بالالتحاق بأحد الكتاتيب التقليدية على نحو ما جرت عليه العادة في تلك الأيام، ثم انتقل للدراسة بالمدرسة الأحمدية (أولى مدارس دبي شبه النظامية، وسميت بهذا الاسم نسبة إلى مؤسسها الشيخ أحمد بن دلموك الفلاسي الذي أطلقها عام 1912). في هذه المدرسة التاريخية زامل الشيخ مكتوم بن راشد آل مكتوم رحمه الله، وتعلم الكتابة والقراءة والنحو والصرف والخط وكتابة الرسائل، وحفظ شيئًا من القرآن الكريم مع التجويد. وفيها أيضًا بدأ ولعه بالمسرح لأن الأحمدية اعتادت أن تختتم عامها الدراسي بفعاليات ثقافية منها المسرحيات.
غير أن بطي التواق للعلم والمعرفة لم يجد في كل هذا ما يشبع نهمه، فراح يقصد كل من كانت له دراية بالعلوم الحديثة كالرياضيات والانجليزية والفارسية والأوردو والنحو والبلاغة ومستعد لنقلها إلى غيره. يتذكر بطي في هذا السياق أنه كان يقصد متجر المرحوم حسن بن علي القاسمي (والد وزير التعليم الأسبق حنيف حسن) في بيت المرحوم راشد بن دلموك بمنطقة الرأس في دبي، لينهل منه النحو والإعراب كونه من الضليعين في اللغة وممن توارثوا العلم كابرًا عن كابر، ناهيك عن أنه كان كريمًا لا يبخل على الشباب بوقته ومستعدًا لتعليمهم دون مقابل.
وفي عام 1949 قرر والده أن يسافر للعمل بمدينة الدمام السعودية، فرافقه إلى هناك لكنه سرعان ما عاد إلى دبي في وقت كانت فيه تباشير التعليم النظامي الحديث قد ظهرت، فانتظم بطي في إحدى المدارس النظامية، محاولًا اللحاق بما فاته.
وبينما كان يتابع دراسته لاحت له ولبعض أقرانه فرصة العمل في البنك البريطاني الذي كان آنذاك بمنزلة جامعة تعلم العاملين بها أصول اللغة الانجليزية ومسك الدفاتر ونظم الحسابات وقواعد التجارة، وتعدهم للحياة العملية، بدليل أن أغلب تجار الإمارات اليوم ممن سبق لهم العمل في هذا المصرف العتيد.
وفي عام 1953 قدر له السفر مع والده إلى الهند، فكانت تلك زيارته الخارجية الأولى التي عاد منها مبهورًا بما رآه هناك من أعمال وأنشطة وحراك ثقافي وترفيهي وتمدن معيشي، خصوصًا أنه حظي في رحلته هذه بمقابلة عدد من مثقفي وتجار الخليج المقيمين في الهند أو القادمين إليها للدراسة أو الاتجار، مثل الأديب الشاعر أحمد بن سليم ورجل الأعمال عبدالمنعم الزواوي وغيرهما.
دفعته طموحاته لجهة الارتقاء بذاته وتحسين ظروفه المعيشية إلى السفر إلى السعودية مجددا أوائل عام 1954، على نحو ما درج عليه أغلب الشباب الإماراتي آنذاك، فاختار أن يلقي رحاله في المنطقة الشرقية لعدة أسباب منها قربها الجغرافي من بلده، وتوفر وظائف كثيرة في الشركات العاملة في مجال النفط والخدمات التابعة، ونصائح والده الذي سبق له العمل في شرق السعودية. عن هذا المنعطف في حياته قال بطي في لقاءاته الاعلامية: «عملتُ في السعودية، وكنا نتقاضى 5 ريالات عن عملنا يوميا. ولأنني أعرف الكتابة والقراءة وشيئًا من الإنجليزية، طلب مني أحد المقاولين وهو عبدالله فؤاد أن أعمل معه وأعطاني أجرة قدرها 300 ريال، فعملت معه بكل جد، وكنت أنام في مواقع العمل من شدة حرصي على وظيفتي، فبلغ راتبي اليومي بعد 8 أشهر 36 ريالًا».
لم يطل غياب صاحبنا في السعودية، إذ عاد إلى دبي في منتصف عام 1954 متطلعًا إلى استثمار ما ادخره في مشروع خاص يغنيه عن الاغتراب. وهكذا نجده يشتري سيارة ليعمل عليها في نقل الركاب بين عمان والعين وأبوظبي ومناطق أخرى، كما نجده يتغلب على نقص قطع غيار السيارات في أسواق الإمارات بالسفر مع والده إلى عدن لشراء قطع غيار مستعملة وتوريدها إلى دبي لبيعها إلى أصحاب السيارات.
مشاغله الكثيرة وأعباء الحياة المرهقة لم تمنعه من إيلاء جزء من وقته واهتمامه نحو الأنشطة الشبابية التي تخللتها مساهمات تربوية وثقافية وفنية ورياضية ونشاط سياسي أيضًا. ففي عام 1956 أسهم مع أخيه غير الشقيق الحكم المونديالي الشهير علي بن محمد بوجسيم المري في تأسيس نادي الشباب العربي بمنزل غانم بن عبيد بن غانم في منطقة سوق الذهب بديره بهدف مزاولة أنشطة ثقافية وفنية بعيدًا عن النشاط الرياضي الذي كان يُمارسه الناس من خلال النادي الأهلي في بر دبي (أطلق عليه فيما بعد اسم «نادي النصر» الذي يُعد اليوم عميد الأندية الإماراتية). وفي هذا النادي، حيث كان يتجمع الطلبة والمواطنين بعد صلاة المغرب، اهتدى الرجل إلى فكرة استغلال وقت المتجمعين في تعليمهم وتثقيفهم، فتولى مسؤولية إحضار معلم من المدرسة كل مساء كي يراجع معهم دروسهم ويساعدهم في التحصيل قبل أن يدفعهم لممارسة الأنشطة المختلفة. ويتذكر بطي أن «فريق العربي الكويتي» تواجد بالصدفة في دبي آنذاك، فتقرر أن يلعب مع شباب النادي مباراة في كرة القدم. ونظرًا لتواضع الامكانات المادية لنادي الشباب العربي وضعف المردود المتأتي من رسوم الاشتراك البالغ مقدارها آنذاك روبيان، لم يكن لدى لاعبي النادي ملابس رياضية يواجهون بها الفريق الكويتي، وهو ما دفع أحد لاعبي النادي (عبدالعزيز بن عبدالله الفارس) إلى استعارة الملابس من الكويتيين. وهكذا يُعد بطي بن بشر واحدًا من رواد الحركة الشبابية في الإمارات. ليس هذا فحسب وانما هو أيضا من رواد الحركة المسرحية كونه ساهم في أواخر الخمسينات في أول مسرحية جماهيرية تعرض في دبي من خلال مسرح سينما الوطن بميدان جمال عبدالناصر، وكانت بعنوان «الإسلام وبدو الإمارات»، علاوة على مشاركته بالتمثيل عام 1963 في مسرحية «سامحيني» التي عرضت على مسرح نادي الشباب من تأليف واخراج العراقي واثق السامرائي.
تحول نادي الشباب العربي زمن العدوان الثلاثي على بورسعيد سنة 1956 إلى بؤرة تجمع شبابية لتأييد مصر والتنديد ببريطانيا، بل تحول إلى مركز انطلاق للمظاهرات التي شارك فيها بطي بحماس مدفوعًا بشعوره القومي العربي. وعلى إثر هذه الأحداث طالبت سلطات الحماية البريطانية بترحيل من وصفتهم بالمشاغبين، وكان بينهم بطي بن بشر الذي سارع طوعًا لمغادرة دبي إلى البحرين، ليبدأ من هناك حقبة اغتراب جديدة.
في البحرين لم يجد الرجل مجالًا يقتات منه سوى العمل سائقًا لرافعة بميناء سلمان، لكنه في الوقت نفسه راح يطور نفسه من خلال الالتحاق مساء بمدرسة عبدالرسول التاجر بالمنامة التي كانت تـُعرف بالمدرسة الأهلية، بهدف تعلم الضرب على الآلة الكاتبة وإنهاء تعليمه الثانوي، كما راح يرفه عن نفسه بممارسة رياضة كرة القدم من خلال نادي المحرق الذي لعب له في حراسة المرمي عام 1958م، فكان بذلك أول لاعب إماراتي يحترف بالخارج.
عاد الرجل من البحرين عام 1959، متأبطا آلته الكاتبة وشهادته الثانوية، ومتسلحا بالمزيد من الخبرات والمعارف والأفكار الحديثة، فوجد أمامه فرصة وظيفية بدائرة المحاكم التي كانت آنذاك في بدايات تأسيسها ولم يكن بها سوى قاضٍ واحد وخمسة كتاب وعدد من الحراس، فعمل بها كأحد موظفيها الكبار براتب 250 روبية شهريًا. وهكذا ظل يعمل في المحكمة قانعًا بوظيفته حتى عام 1964. وفي العام التالي، ونظرًا لكونه أحد القلائل من المواطنين المتعلمين والملمين باللغة الانجليزية وممن سبق لهم العمل في البنك البريطاني، تم تعيينه مديرًا تجاريًا لفرع بنك عمان بمدينة العين الذي صار لاحقًا «بنك المشرق».
المنعطف المفصلي في حياة بطي حدث في عام 1966، وهو العام الذي تولى فيه المغفور له الشيخ زايد بن سلطان حكم إمارة أبوظبي خلفًا لأخيه الشيخ شخبوط رحمها الله. ففي تلك السنة، وبينما كان في طريقه مع خاله خليفة الصيري وبعض أصدقائه من العين إلى دبي بالسيارة تصادف مرور موكب الشيخ زايد، فتوقفوا للسلام على سموه. ولما حان موعد انصرافهم، استبقى الشيخ زايد بطي دون الآخرين وأخبره أنه اختاره ليكون معه، وكان بطي معروفًا لدى الشيخ زايد لأنه سبق له أن زار سموه برفقة والده صيف عام 1960 بقلعة الجاهلي، حينما كان والده يمضي فترة الصيف في البريمي، ناهيك عن أن معرفة الشيخ به تعززت خلال عمله في العين كمدير تجاري لمصرف عمان.
منذ تلك اللحظة تغيرت حياة الرجل كليًا واختلفت عن حياته السابقة المليئة بالتقلبات والمعاناة. إذ إلتحق بخدمة الشيخ زايد في سنوات حكمه الأولى لأبوظبي، وراح يتدرج في المناصب الإدارية بدءًا من العمل مساعدا للشيخ حمدان بن محمد آل نهيان في شؤون التعليم وشؤون التخطيط في أبوظبي إلى أن أصبح سكرتيرًا خاصًا للشيخ زايد يتلقى أوامر سموه وينفذها ويتابعها بدقة وحرص شديدين، ملازمًا لسموه في حله وترحاله، ومرافقا له في سفراته الخاصة وزياراته الرسمية وغير الرسمية إلى الخارج. وهناك الكثير من الصور والحكايات التي تؤكد عمق العلاقة التي ربطته بسيده مذاك وحتى عام 1976 حينما كافأه الشيخ زايد بتعيينه وكيلًا لوزارة الأشغال الاتحادية التي كان يتولى حقيبتها آنذاك الشيخ حمدان بن محمد آل نهيان. ومما يـُذكر للرجل أنه أثناء توليه هذا المنصب الحكومي أشرف بنفسه على عدد من مشاريع البنى التحتية الأولى، ولاسيما الطرق السريعة الرابطة بين الإمارات السبع مثل طريق الشارقة ــ الفجيرة.
في عام 1979 قرر بطي أن يترك العمل الحكومي كي يتفرغ لأعماله الخاصة. وتقديرا لدوره الفاعل واسهاماته الجليلة واخلاصه كوفيء بتعيينه عضوا في المجلس الوطني الاتحادي في فصله التشريعي الخامس سنة 1981. ولنفس الأسباب كرمه صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات، في الثاني من ديسمبر 2013، بمنحه جائزة رئيس الدولة التقديرية.
انتقل بطي بن بشر إلى رحمة الله تعالى في الثاني والعشرين من فبراير 2011 عن عمر ناهز السبعين عامًا، تاركًا خلفه سيرة عطرة متوجة بأعمال البر وخدمة الوطن.
وقبل وفاته بأشهر معدودة أدلى بحديث مفصل إلى إحدى صحف الإمارات، سرد فيه شيئًا من ذكرياته القديمة مع الشيخ زايد في العين فقال: «كان سموه رحمه الله لا يكل ولا يمل، فتراه منذ الفجر جالسًا ينتظر إقامة صلاة الصبح وبعد أن يصليها يتوجه إلى مجلسه أمام بيته المعروف هناك، وكان قبلها يبرز أمام المربعة التي وسط السوق القديم، ومع بداية بزوغ شمس كل يوم تجده جالسًا في مجلسه يحيط به ربعه وأصحابه المقربون ومن ثم يتوافد إليه الوافدون إلى مدينة العين للسلام عليه وطلب حاجاتهم منه وبعد تناوله القهوة والريوق (الإفطار) يتحرك مع بعض ربعه في سيارته ويمر على مواقع معينة يريد استطلاعها ومعرفة المعلومات عنها عن قرب لحاجة في نفسه يجهلها أكثر من يحيط به، وفي الطريق كان رحمه الله يفصح عن بعضها بسؤال أشخاص معينين من صحبه عنها أو يطلب المرور على شخص معين ليصحبهم في جولتهم تلك ومقصدهم لكونه أكثر العالمين عن تلك المنطقة المراد زيارتها، فقد كان رحمه الله يعرف الرجال ويعرف قدرة كل واحد منهم ويعطيه من الحجم ما يستحقه ويوكل إليهم المهم كلٌ وقدراته وملكاته، وكان هذا سر نجاحه وتوفقه في اختيار الرجال والمحيطين به من رجال القبائل وكبار المسؤولين، وكل يتفطن بمعدن كل رجل من أول مرة يراه ويقابله فيها ويستمع إلى حديثه، ألم يقولوا: المرء مخبوء تحت لسانه، فقد كان رحمه الله يعرف الرجل من كلامه ومنطقه وكيف يتكلم ويزن كلامه قبل أن يتكلم به».
وفي اللقاء الصحفي ذاته تحدث بطي أيضا عن ذكرياته مع الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم رحمه الله فقال: «كنت كلما أمر على الطريق الساحلي المؤدي بين دبي وأبوظبي في مطلع السبعينات من القرن الماضي، وعند الموضع المعروف سابقًا بالجبيل والمعروف حاليا بجبل علي، كنت أشاهد المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم حاكم دبي جالسًا على كثيب رملي ويتأمل في البحر، وكنت أنزل من سيارتي الجيب وأسلم عليه ويسألني عن أخباري، ولم أكن أعرف أو يعرف غيري ما كان يدور في خلده وقتها، وبعد مدة سمعت وسمع الناس عن مشروع ميناء جبل علي العملاق الذي كان له الأثر الكبير في نقل دبي من عصر إلى عصر. فسبق الجميع إليه بعقليته الكبيرة وبعد نظره الثاقب وتنفيذه لأكبر وأفضل المشروعات التأسيسية والتنموية. لقد كان الشيخ راشد أصيلًا وذكيًا لأعلى الحدود، وكنا نحمد الله أنه لم يكن جامعيًا حيث كنا نقول إنه لم يدخل المدارس ولم يتعلم في الجامعات وهذه طموحاته وأفكـاره التي سبقت عصره فماذا كان سيفعل لو كان متعلما وخريج إحدى الجامعات، أكيد أنه كان سيهلكنا من العمل».
التعليقات