حشود عسكرية ضخمة. استدعاء للاحتياط ومناورات وتدريبات استراتيجية ونووية يأمر الرئيس الروسي بإجرائها، لكنه لا يزال يستنكر تصريحات الرئيس الأميركي وقادة الدول الغربية عن "حرب مزعومة". في المقابل، حالٌ من الاستنفار في حلف الأطلسي، ومساعدات عسكرية ولوجستية لأوكرانيا، ومزيد من الجنود من دول عدة الى بولندا ورومانيا ودول البلطيق الثلاث.

روسيا تواصل التظاهر بأنها لم تتخلَّ عن "الحلول الدبلوماسية"، ولم تنقطع الرسائل بينها وبين الإدارة الأميركية بحثاً عن "ضمانات أمنية" أصبح الاتفاق عليها أكثر صعوبة تحت الضغط الميداني، ثم إن الأمين العام لـ"الناتو" أكّد المؤكّد، أمام مؤتمر ميونيخ للأمن، وهو أن مطالب موسكو "لا يمكن أن تتحقّق".

الحرب بدأت عملياً، بدأت على الأرض، وخطوط التماس بين انفصاليي دونباس والقوات الحكومية في أقصى التوتّر والتسخين مع مناوشات واستفزازات وأعمال قصف. كان يمكن اعتبار ذلك في سياق الوضع المألوف منذ 2014، إلا أن عمليات إجلاء السكان من "الجمهوريتين الشعبيتين"، دونيتسك ولوغانسك، الى الأراضي الروسية هي الاستعدادات الأخيرة. قبل ذلك، استطاع فلاديمير بوتين إشغال عواصم الغرب بأنباء البدء بسحب قواته من الحدود الأوكرانية، لكن "الخدعة" لم تدم أكثر من ساعات، وأنهاها جو بايدن شخصياً بإعلان أن الحرب "خلال أيام". أما وزير الدفاع الأميركي فهاتف نظيره الروسي ثم أعلن أن القوات الروسية تتقدّم الى مواقع تسمح لها بشنّ هجوم على أوكرانيا. وما لبثت واشنطن أن أوضحت أنه سيكون "هجوماً شاملاً".

حقّقت معركة العبث بالإعلام نقطة: الغموض. فبين طرف أميركي يؤكّد أن ثمة حرباً في الأفق، وطرف روسي يقول إنه لا يريد حرباً، كان لا بد من اختلاط المواقف، خصوصاً مع الارتباك الذي أبدته فرنسا وألمانيا، ومع تمترس البلدان الأخرى وراء الصمت والترقّب أو الحثّ على حل الأزمة بالتفاوض. غير أن الوقائع أظهرت أن الرواية الأميركية لم تكن وهمية، وللمرّة الأولى تكشف واشنطن جانباً من معلوماتها السرّية لتصنع رأياً عاماً دولياً مناوئاً للحرب ولروسيا. صحيح أن آراء أوروبية وداخل أميركا اتّهمت الإدارة بأنها تمهّد للحرب أكثر مما تعمل على منعها أو تجنّبها، وأنها ربما تسعى الى "توريط" بوتين، لكن الصحيح أيضاً أنها لم تتمكّن من استباق الحدث، وبالتالي فإنها لم تستطع التحكّم به، على رغم أن الأزمة الأوكرانية مشتعلة منذ ثمانية أعوام.

أما موسكو فلم يعد سراً أنها اتخذت قرارها لحسم مسألة أوكرانيا بطريقتها ووفقاً لرؤيتها، أي أنها في صدد الحرب، بلا أي غموض، وبحسب المواعيد التي حدّدتها واشنطن. لكن هناك ما بقي مجهولاً، ويشير إليه سؤال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي: ماذا يريد بوتين؟ هل ينوي احتلال كل أوكرانيا، أم يفرض تقسيمها رسمياً بضم "الجمهوريتين" الانفصاليتين، وهل يطمئنه الاستئثار بشرقها الروسي وبقاء غربها غربياً؟ في الحدّ الأقصى يريد بوتين أن تكون أوكرانيا كاملة في الفلك الروسي، أو تكون في الأدنى دولة فاصلة مع الأطلسي. ما أبلغه بايدن الى القادة الغربيين ولمّح إليه رئيس الوزراء البريطاني، يفيد بأن بعض جوانب "الخطة" (الحرب) بدأت فعلاً، وأن روسيا "تعتزم شن غزو يطوّق العاصمة كييف" أي بهدف إسقاطها.

لا شك بأن مسارعة "الناتو" الى إرسال تعزيزات عسكرية الى الدول المتاخمة تبقى مصدر إزعاج شديد لبوتين، بمقدار ما أن شكوى زيلينسكي في ميونيخ من ضعف الدعم الغربي تطمئنه، مثلها مثل أصوات كثيرة قالت في الآونة الأخيرة إن دول الغرب لن ترسل أبناءها الى القتال من أجل أوكرانيا. فما دام الغرب لن يقاتل، بل إنه يحدّد الخطوط التي سيتخذها الغزو الروسي ويُقصر "تمنياته" على عدم اجتياح غرب أوكرانيا، فهذا يعني بالنسبة الى بوتين أن الطريق الى أهدافه سالكة.

لم تفصح واشنطن بشيء في ما يتعلّق بما بعد الغزو، وكأنها تسلّم مسبقاً بخسارة أوكرانيا، وباعتبارها موقعاً متأرجحاً وليس "خطاً أحمرَ". أما الأوروبيون فيفكرون أولاً بتداعيات الغزو مباشرةً على اقتصاداتهم وحاجتهم الى الغاز الروسي، وثانياً بالواقع الأمني والسياسي الذي سيفرض نفسه لاحقاً على "الناتو" والاتحاد الأوروبي. لا شك بأن "النظام الغربي" وأن "الناتو" كـ"أعظم تحالف عسكري في التاريخ"، يتعرضان لـ"اختبار"، كما قالت نائبة الرئيس الأميركي كمالا هاريس في ميونيخ، إلا أنها لم تَعِد بأكثر من "عقوبات اقتصادية سريعة ومؤثرة بقوّة" لمواجهته.

عندما يقول بوريس جونسون إن "الخطّة التي رأيناها تتعلق بما يمكن أن تكون أكبر حرب في أوروبا منذ عام 1945"، فهذا يفترض أمرين: أولاً، أن النظام الغربي ما بعد الحرب العالمية الثانية بلغ نهايته. وثانياً، أن الاستعداد للردّ بالعقوبات فحسب لا يبدو متناسباً مهما كانت شديدة. في بعض التوصيفات قيل إن العقوبات ستحيل روسيا الى دولة "منبوذة"، لكن تحليلات مسبقة لمؤسسات مالية أميركية وأوروبية أشارت الى أن التلويح بالعقوبات لم يبدُ رادعاً، أما فرضها لاحقاً فسيكون موجعاً لكل الأطراف، وبالتأكيد سيربك روسيا إلا أنه لن يكون فاعلاً على المدى الطويل، سواء لأنها ستتكيّف مع الواقع أم لأن استراتيجيتها المشتركة مع الصين تعمل أو ستعمل سريعاً على تطوير بدائل التفافية، إذ إن الدولتين تهدفان الى تغيير النظام الدولي، ومن الطبيعي أن تطمحا، برغم الصعوبات، الى تغيير النظام المالي والمصرفي الذي تمسك أميركا بمقاليده.

في الأثناء، تحاول الدول كافة التعرّف الى تداعيات الحرب عليها، وسط بروز حذر للاستقطابات، لكن بعيداً من "محاربة الشيوعية" ومناصرة "العالم الحرّ"، كما كانت خلال الحرب الباردة. فالدول تدقّق حالياً في مصالحها الآنية والبعيدة المدى، وفي انعكاس الحرب على أوضاعها مباشرة أو غير مباشرة (العالم العربي وأفريقيا). وبطبيعة الحال تُطرح التساؤلات المستقبلية: كيف يمكن الاستمرار في الاعتماد على أميركا وبماذا، وهل يمكن الرهان على روسيا والصين، بل هل الحياد وعدم الانحياز ممكنان؟ كثير من الدول تطمح الى الاعتماد على النفس وإبقاء علاقاتها مفتوحة مع كل الأطراف. في المقابل، ربما ترى الشعوب عموماً أن أميركا والغرب قدّما نموذجاً انفتاحياً، برغم سوء السياسات وانتهازيتها، أما روسيا فجرّبت سوفياتيتها ولا جدوى من تكرارها، وأما الصين فتقتصر أهدافها على التجارة في حين أن تجربة هونغ كونغ أظهرت أنها لا تزال في عصر غابر.