عودا على بدء، كما ذكرت في المقال السابق من هذه السلسلة، أن في هذه الأيام ليس هناك موضوع يعلو على موضوع الأزمة الروسية - الأوكرانية، وأن أعين العالم تتجه نحوها وتتابع تطوراتها المتسارعة بترقب وحذر. وأوضحت أن أثر هذه الأزمة سيمتد إلى كثير من الدول والقطاعات، وبنسب متفاوتة، فتأثر أوروبا في جميع النواحي الاقتصادية والسياسية والأمنية والاجتماعية وغيرها يختلف بلا شك عن تأثر الدول البعيدة عن نطاقها الجغرافي والسياسي والاقتصادي. فيما يخص قطاع الطاقة العالمي الذي لم يكن ولن يكون بمنأى عن أي تطورات لهذه القضية، كون روسيا ثالث أكبر منتج للنفط في العالم بنحو 10.6 مليون برميل يوميا من النفط الخام والمكثفات، وتعد روسيا كذلك أكبر مصدري الغاز في العالم بما يقارب 238.1 مليار متر مكعب بفارق كبير عن أقرب منافسيها الولايات المتحدة التي تحل في المرتبة الثانية بنحو 137.5 مليار متر مكعب، حيث إن الأخيرة تستهلك كمية كبيرة من إنتاجها محليا.
الأرقام تعكس أن ما يحدث في قضية روسيا وأوكرانيا سيؤثر تأثيرا مباشرا في أسعار الطاقة عموما، والنفط على وجه الخصوص، وشاهدنا ذلك فعليا كيف أن أسعار النفط قفزت إلى نحو 105 دولارات للبرميل، وكيف أن أسعار الغاز في أوروبا ارتفعت بنحو 60 في المائة قبل أن ترسل بعض التطمينات أن ملف الطاقة لن تصل إليه العقوبات، وأن إمدادات الطاقة في أمان! قبيل أيام وقبل أن تبدأ روسيا عملياتها العسكرية في أوكرانيا، ذكرت أن مرحلة اللا حرب واللا سلم في حينها ستحافظ على أسعار النفط في بحر الـ90 دولارا للبرميل، وأن بدء الحرب سيدفع بالأسعار إلى أرقام كبيرة لن تتحملها أوروبا ولن يتحملها المستهلكون، على وجه العموم. بدأت الحرب فعلا واجتاحت روسيا أوكرانيا لكن عادت أسعار النفط إلى ما دون الـ100 دولار للبرميل، فخام "برنت" عند كتابة هذا المقال في حدود 93 دولارا للبرميل، والخام الأمريكي عند مستويات 90 دولارا للبرميل.
توقعت أن تبعات الاجتياح الروسي ستكون حادة على أسواق الطاقة في حال تم فرض عقوبات اقتصادية على روسيا تشمل النفط والغاز، وتوقعت أن تصل أسعار النفط إلى مستويات قياسية، لكن لماذا لم يحدث ذلك رغم الاجتياح الروسي لأوكرانيا؟ بداية من المهم أن نعي تماما أن تدفق الطاقة إلى شرايين أوروبا كتدفق الدم في الجسد، وفي اعتقادي، أنه مهما تطورت الأوضاع في أوكرانيا ومهما كانت الوعود التي أطلقتها أوروبا وحلف الناتو والولايات المتحدة لمد العون لأوكرانيا ومساندتها، إلا أن أوروبا لن تقبل أبدا أن تدخل في غيبوبة بسبب ضعف تدفق الطاقة إلى شرايينها من أجل أوكرانيا أو غيرها. التصريحات في هذا الصدد كثيرة جدا من الجانب الأوروبي، خصوصا ألمانيا التي تشكل منتجات الطاقة الروسية 35 في المائة أو أكثر من استهلاكها، بل إن تصريحات التطمين كانت من الجانبين بعدم إقحام ملف الطاقة في هذه القضية، إضافة إلى تصريح الناتو بعدم التدخل العسكري المباشر في هذه الحرب. في رأيي، أن الدب الروسي يعي تماما أن إمدادات الطاقة مهمة للجميع ولن يتم المساس بها، وأنه انفرد بالعسل في هذا الملف على أقل تقدير، وأعني هنا اجتياح أوكرانيا دون عواقب مؤثرة فيه!