من المدهش حقاً أن تخاطبنا الأمكنة وأن تبوح لنا بقصصها وتربطنا بالأحداث التي مرت عليها وتراكمت وشكلت شخصيتها غير المرئية. سوف يتذكر، أطفال أوكرانيا الحرب التي تعيشها مدنهم الآن، لن تغيب عن ذاكرة هذا الجيل، كما لم تغب ذاكرة حرب الخليج عن أذهاننا. نتذكر صواريخ سكود وصافرات الإنذار والأشرطة اللاصقة على النوافذ. صور وأحداث يعتبرها أبناؤنا، نوعاً من الأساطير، التي لا يتخيلون حدوثها، وهم يعيشون في أمان ورغد من العيش. يحدثني أحد الزملاء كيف أنه قبل ثلاثة أسابيع فقط كانت أوكرانيا ومدنها تعيش في استقرار، لا ينقصهم شيء. الأماكن السياحية مكتظة والفنادق لا تكاد تخلو من زوارها، يكاد المرء لا يجد مكاناً له بين المحلات التجارية ومحلات بيع الأغذية، وخلال أيام تبدل الحال حتى أن هذه المدن تواجه كارثة المجاعة بعد أن فقدت أمنها واستقرارها. "النعمة زوّالة"، هكذا أنهى الصديق حديثه حول تبدل الأحوال وتغير حالة الأمكنة من يسكنها. على أن حديثنا لا يهتم بتبدل النعم، وهو حديث مهم، لكنه يركز على تبدل هوية الأمكنة وقت المحن.

طالما أشغلتني حالة المكان وتبدل أحواله، ولأن التاريخ غالباً ما يرصد أحوال الناس، ونادراً ما يتحدث عن تبدل أحوال المكان وتراكم الأحداث فيه، لذلك كان من الملفت أن نبحث في "سيرة المكان"، الذي دائماً ما يمتد في التاريخ ويحمل عمقاً يتجاوز حاضره. ولأننا نعيش حالة حرب، وطالما عشنا هذه الحالة في السابق، وكثيراً ما نتذكر الأمكنة التي استنزفتها الحروب وكيف ولدت من رماد الحرب من جديد. من الجدير بالملاحظة أن الأمكنة لديها قدرة فائقة على المحافظة على نواتها الأصلية حتى لو تبدل من يسكنها وتغيرت ثقافاتهم ومعتقداتهم. أذكر أن مدن الأندلس، قرطبة وطليطلة وأشبيلية وسرقسطة، كانت تتحدث معي وأنا أتجول في طرقاتها، كانت تعرف أنني لست غريباً عنها رغم أن من يسكنها الآن هم أغراب عن جذورها وثقافتها الابتدائية.

ويبدو لي أن هناك بذرة تنمو حولها شخصية المكان تبقى على الدوام علامة أو دلالة تقود إلى الجذور. ومع ذلك يجب أن أقول إن كثير من المهتمين بسيرة المكان يعتقدون أن المشاعر التي نكنها نحو مكان ما موجودة داخلنا وليست بالضرورة موجودة في المكان. أي أن ما يتولد لدينا من أحاسيس هي جزء من ذاكرتنا وليس من ذاكرة المكان، فمثلاً المشاعر التي يشعر بها من يشاهد المدن المدمرة في أي مدينة في العالم تختلف من شخص إلى آخر حسب خبرته السابقة، فكلما كان من الذين عايشوا مثل هذه الأحداث كلما كانت الصورة أكثر حضوراً في ذهنه، وكلما كانت ردود أفعاله ومشاعره أكثر تأثّراً.

لماذا تملك الأمكنة أكثر من هوية؟ لعل هذا السؤال يقودنا إلى الحديث عن الفرق بين المكان كمكوّن مادي وبين السيرة الإنسانية/ الاجتماعية والسياسية للمكان. من الجدير بالذكر، أن تطوّر المواقف العاطفية نحو الأمكنة مرتبط بذاكرة من لهم علاقة سابقة بالمكان، أو من عاش تجارب قربته منه. لذلك، من المتوقع ألا تظهر ردود أفعال قوية من قبل من لم يحمل رابطة مع المكان أو الأحداث. ما نود أن نشير إليه هو أن هناك هوية مرتبة بالمكان ذاته، وهوية أخرى مرتبطة بذاكرة المكان، والفرق بين الأولى والثانية، هو أن الهوية الأولى تمثل الحقيقة المادية الأصيلة بينما الثانية تمثل السيرة الخاصة بالمكان والمواقف الفردية منه. غالباً ما تقودنا هذه المقارنة إلى البحث في المعاني المختزنة التي عادة ما تتراكم في الأمكنة عبر الزمن، رغم أن هذه المعاني لا يستطيع يفك شفراتها إلا من ارتبطوا بالمكان في مرحلة ما. أي أنه غالباً لا يتم إلا فك رموز محدودة وليست كل الرموز التي يحتويها المكان.

لابد أن تقودنا الأزمات إلى التفكير بطريقة مختلفة، فعندما نرى صور الأمكنة التي اعتدنا عليها تختفي أو يصيبها تدمير يغير من شخصيتها المادية نبدأ في التفكير في موضوع الهوية المتحول والمتبدّل حتى على مستوى العناصر التي تمثل "أصالة المكان". الحرب بكل ما تحمله من تداعيات لا تعتبر "تراجيديا" إنسانية فقط بل هي "تراجيديا" مكانية بامتياز، فكما يصاب البشر ويفقد بعضهم روحه نتيجة للحرب، تصاب الأمكنة وتفقد روحها وربما تندثر إلى الأبد. على أن سيرة الأمكنة تمتد طويلاً وتحتوي على سير متعددة ومتراكبة للبشر مما يجعل الحقيقة المكانية المادية نسبية، فكل ينظر لها بشكل مختلف حتى لو اختفت حقيقتها المادية جزئياً.