"سياسة البلاد لا تحدد في وزارة الخارجية"، كان هذا ردّ المرشد الإيراني علي خامنئي على انتقاد وزير الخارجية الإيراني السابق جواد ظريف، لانتهاج الحرس الثوري سياسات تتناقض وتقوّض أحياناً الجهود الدبلوماسية لحكومة حسن روحاني.

ربما يمكننا استعادة هذه المقولة دائماً لمعرفة أن تتبّع المسار الدبلوماسي للحكومة الإيرانية لا يعبّر ولن يفصح عن الأهداف الكاملة لمسار التحرك الإيراني، ولا يمكنه أن يكون مؤشراً إلى اتجاه النوايا الإيرانية للتهدئة أو التصعيد، هجوم أربيل الأخير مثالاً حديثاً.

منذ أيام وفي خضم انتظار إعلان التوصّل نهائياً إلى إحياء الاتفاق النووي، أعلن الحرس الثوري الإيراني مسؤوليته عن عشرات الصواريخ التي سقطت بالقرب من موقع القنصلية الأميركية الجديدة في أربيل بإقليم كردستان العراق.

كان المبرر الذي أعلنه الحرس الثوري أن الصواريخ استهدفت مقراً لجهاز الموساد الإسرائيلي. هذا الموقف يطرح أسئلة كثيرة تتعلق بالهدف الإيراني، لا سيما في هذا التوقيت.

ففي هذه الأثناء، تنتظر إيران والقوى الغربية الأوروبية والولايات المتحدة ما سيجري التوصّل إليه بشأن موقف روسيا، الذي ظهر أخيراً لاستثناء التعاون بين موسكو وطهران في المجالات الاقتصادية والتكنولوجية من أية عقوبات غربية تُفرض على الأولى بسبب الحرب في أوكرانيا.

كما ما زالت إيران تتمسّك بمطلبها الخاص بالرفع الكامل للعقوبات المفروضة عليها، بما فيها المتعلقة بالصواريخ الباليستية وحقوق الإنسان، والأهم من ذلك إلغاء إدراج الحرس الثوري الإيراني على قائمة الكيانات الإرهابية. ومن ثم، لماذا يقدم الحرس الثوري على إطلاق صواريخ ضد إقليم كردستان العراق بزعم استهداف هدف إسرائيلي؟

ربما في سياق التوقيت والأجواء السائدة سالفة الذكر، يكون الهدف الإيراني إرسال رسائل عدة وتحقيق أهداف عدة في آن. هناك هدف معلن مرتبط بإسرائيل، الذي قد يعتبر أن الهجوم الإيراني رد فعل انتقامي لضربات إسرائيلية ضد أهداف إيرانية في سوريا، تسببت في مقتل عدد من جنود الحرس الثوري منذ أسابيع، وقد يعتبر دافعاً لفكّ التحالف بين الحزب الديمقراطي الكردستاني، والكتلة السنية التي يقودها رئيس البرلمان محمد الحلبوسي والكتلة الشيعية التي يقودها مقتدى الصدر، الذي فازت كتلته بأكبر عدد من المقاعد في الانتخابات البرلمانية العراقية في أكتوبر (تشرين الأول) على حساب الجماعات الشيعية المدعومة من إيران التي رفضت النتيجة حينها.

ولطالما ادّعت إيران أن جهاز الموساد الإسرائيلي له وجود في كردستان العراق، بل هناك تصوّر أن تسلل الموساد إلى الداخل الإيراني وتنفيذ بعض الهجمات كان من خلال التسلل عبر الأراضي الكردية في العراق أو من خلال أكراد، لذا أرادت إيران رفع التكلفة على الأكراد. الأمر اللافت هو رد فعل الولايات المتحدة التي اعتبرت أنه لا يوجد ما يشير إلى أن الصواريخ كانت تستهدف القنصلية الأميركية بأربيل، ومن ثم هذا انعكاس أن الولايات المتحدة لا تعتبر إيران تهديداً، وأن سلوك الحرس الثوري غير مدان طالما لم يستهدف مصالح أميركية.

فقد تراجعت الهجمات على الولايات المتحدة داخل العراق بنسبة كبيرة، منذ اقتحمت الميليشيات الشيعية السفارة الأميركية في بغداد في ديسمبر (كانون الأول) 2019، وأطلقت صواريخ باليستية على قاعدة عراقية تستضيف القوات الأميركية في يناير (كانون الثاني) 2020، للانتقام لمقتل قائد فيلق القدس قاسم سليماني.

أهم دلالات الهجوم الإيراني، وإن لم تكُن هناك خسائر أميركية أو إسرائيلية، أولاً، الهجوم يوضح انتهاج إيران ثنائية الدبلوماسية والعمل الميداني لتحقيق أهدافها في الوقت ذاته، ثانياً أن الحرس الثوري سيظل يحتفظ لنفسه بالحق الحصري للتحرك منفرداً بعيداً من الدبلوماسية، وإن كان هذا أحد مآخذ الحكومة الإيرانية السابقة بقيادة حسن روحاني ووزير خارجيته جواد ظريف، اليوم سيمارس الحرس الثوري هذا الحق من دون مآخذ من حكومة إبراهيم رئيسي، التي لن تعتبر تحركات الحرس الثوري معوّقاً أمام الدبلوماسية، بل تتوازى معها.

ثالثاً، لن تكون هناك تهدئة بين إيران وإسرائيل، وسيظل كل منهما يستهدف وجود الآخر في الشرق الأوسط. وربما لم يكُن هناك هدف إسرائيلي، وكان هذا نوعاً من استعراض القوة للحرس الثوري بالعمل العسكري الميداني، على الرغم من قرب الاتفاق والتفاخر بعمل دعائي ضد إسرائيل.

ومن ثم، فإن الاتفاق النووي ما لم يستتبعه حوار إقليمي ثنائي أو جماعي، لن يؤدي إلى استقرار إقليمي، وربما في أفضل الظروف سينحصر التوتر الإقليمي في استمرار حرب الظل بين إيران وإسرائيل. الأمر المؤكد أن هذا ما تدركه تل أبيب، التي ستظل تحتفظ بحق الرد على أي تحرك إيراني.