كان لبنان وطناً، وصار شيئاً آخر. كانت السلطات فيه شيئاً منتظراً، وكلّ يوم قبل ال2005 وبعدها، راحت تتراجع وتهترئ لتصبح شيئاً آخر. كنا أمام فرضية انتظار انهيار السلطات التقليدية تاريخياً، وأصبحنا أمام فرضية انهيار، بل انتظار تبعثر لبنان مثل لعبة مهشمة مهملة إقليمياً ودولياً ملفوفة بالحيرة وضياع مستقبلها ومستقبل شعوبها.
وبين «كان» و«أصبح» مسافات وجرائم وجهل سياسي متعفن في فهم الماضي والحاضر والمستقبل، لكنّها مسافات تبدو حافلة بضمور وفقر سياسي وحزبي لم يكن يخطر في بال أنّه سيرمي بقايانا هكذا في فقر وجوع وخوف وفرضيات تهديمية تفرض نفسها من دون جهود كبرى، أو تقيم فينا رعباً وتهجيراً قبل الإمساك بالأقلام لوصفها من نقصٍ إلى نقضٍ جديد؟
سأنقل ما نحن فيه من انهيارات مخاطباً أشقائي العرب ولو رمزياً أو لغوياً:
تحمل «كان» يا أخواتي وإخوتي صيغة الماضي في لغتنا العربية لكنها تحمل، على العكس صيغة الحاضر باللغة الفرنسيّة مثلاً، فتعني «هو» بمعنى est تعني الفعل الدال على الكائن والوجود. نقول بالفرنسيّة Ce texte est lourd أي هذا النص ثقيل حيث تسقط الest في الترجمة، أي تنتفي الصلة في اللغة العربية، فتقوى المفارقات وتزداد العداوات والإلغاءات. وتبرز دينامية جديدة في ارتباط الماضي بالحاضر في السياسة والعلاقات والمستقبل اللبناني، على الدوام، تشغل الأشقاء العرب ودول العالم بتراكم؛ بل بتزاحم مقولات وحروب الحذف والإلغاء وادّعاءات التجديد والتطوير والثورة والتغيير والأكاذيب والفشل. ويتصور هؤلاء أنفسهم وفي مقدمهم غالبية الشعب اللبناني، أحياناً، أنهم أسرى فرضيّات ووعود وخطب ومقابلات إعلامية نظرية تثبت نفسها باكتشافات وحلول متيسّرة للجميع، وهي ليست بحاجة مطلقاً إلى أبحاث وجهود وتصويب ونقد لإثباتها لأنّ الخبرة في السياسة اللبنانية الهرمة تتقدم على المواقف المجبولة بالسرقات والجرائم ومناكفة العرب وليّ الرقاب والوطن للغرباء من تركيا وفرنسا إلى إيران مروراً بسوريا بكامل هامتها وثقلها وجيشها وقبلها فلسطين التي احتارت في لحظة بين لبنان وفلسطين وعواصم العرب، ومثلها يحتار النازحون السوريون والمنتفعين منهم في لبنان بين بلدهم ولبنان الذي لا ينفصل عنه سوى بالسير لخطواتٍ نحو الحدود المفتوحة لكلّ الصادرات لا الواردات، حيث لا حسيب ولا رقيب ولا قوى قادرة على ضبطها، بل هم أقدر على تفريغ الوطن.
نعم شبابه وشاباته الذين أفنوا أعمارهم في وطنهم الذي يلفظهم رفوفاً نحو المطارات لم يفعلها أعداء الأمس، ولا مانع من إيقافهم وتقريعهم بارتجالاتهم المقيتة القاسية، وفي هذا وجه أساسي، ربما، من وجوه الريادة في سلخ جلود الشعوب، كما في صعوبة انتفاء الصلة المتنامية الكريهة في لبناننا بين اليوم وأمس.
فليقرأوا: تعتمد حركة الشابات والشباب الخفة في الإقامة في عالم «الأون لاين» لا يعنيهم كلمة زعماء وسحناتهم. ينبذونهم ولا يعنون لهم شيئاً في سياق الحاضر أو المستقبل، لأنهم، وقد عشنا ونعيش معهم في الجامعات هم من فصائل الفئران المُشرقة أبداً ذكاء ويتجاوزوننا تفكيراً وتعبيراً مختصراً، وخصوصاً عندما تُطرح عليهم مسائل خاصة بتاريخ بلدهم لبنان أو بسلوك زعمائهم الطائفيين البليدين التقليديين. تشعر نفسك أمام أجيالٍ تعلمها وتخرّجها وتُغادر فجراً، وكأنهم ولدوا في رحم وطنٍ ليس في حاضرهم ومستقبلهم ولا في أحلامهم.
هم صبايا وشباب يولدون في عالم متشعب من الأبحاث المقننة الدقيقة والدراسات والفرضيات والتجارب التي تسبقها دائماً. كان يمكن لأساتذتهم استيعابها أو فهم مدى تعقيداتها أو أسرارها، لكن وسائل الاتصال رذلتنا وقطعت أمام أجيالنا أشواطاً تاريخية كبرى في وعي وظائفها العائلية والاجتماعية والإنسانية والكونية وقدراتهم المعرفية المعقدة الحقيقية والتي تفوق أي وصف أو فرضية لتأكيد هذه المقدرات أو إثبات نجاحها ونتائجها.
كم يُفرحني هنا أن تُصبح فروع جامعة السوربون التي بنيت كياني فيها والجامعات الأمريكية وغيرها من الجامعات العالمية منتشرة في دبي وأبوظبي وعواصم الخليج، بينما يُحزنني كيف ترهّلت الجامعة الأمريكية واليسوعية والجامعة الوطنية في لبنان المجانين. أرى أساتذة الجامعات في لبنان بالآلاف متظاهرين يفترشون أرصفة لبنان متعاقدين ومتفرغين ومتقاعدين يفترشون الأرصفة أمام المقار العفنة بحثاً عن رواتبهم للاستمرار في تأمين الخبز لأولادهم أو المستقبل لأحفادهم.
كنا وأصبحنا وقد نبقى طويلاً أمام أجيالٍ هرمة قميئة من سياسيين ينتظرون بوقاحاتٍ لا توصف بالعربية أو في أية لغةٍ أخرى مساعدات العرب لهم، وكأنّ ذلك فروض وواجبات من الغير تكريماً لفشلهم وتخريب وطنهم وهم باقون حتى يسحبهم الباري إلى.... أو تبشيرهم بالحروب والانفجارات فيلتحقون بعائلاتهم وأبنائهم وأحفادهم بطائراتهم الخاصة نحو قصورهم المسروقة أثمانها في عواصم العالم.
التعليقات