مؤخرًا قدم رئيس وزراء هولندا مارك روتي اعتذارًا رسميًا لإندونيسيا باسم بلاده عن ماضيها الاستعماري في تلك البلاد، معترفًا بأن هولندا استخدمت عنفًا منهجيًا مفرطًا وغير أخلاقي للحيلولة دون استقلال إندونيسيا، ومبديًا أسفه أن الحكومات الهولندية السابقة غضت الطرف باستمرار عن ذلك، ومعلنًا في الوقت نفسه عن استعداد حكومته لدفع تعويضات لأهالي الضحايا. والمعروف أن إندونيسيا كانت خاضعة للحكم الاستعماري الهولندي على مدى 350 سنة إلى أن استولت عليها اليابان في أثناء الحرب العالمية الثانية. وبعد هزيمة الأخيرة في الحرب أعلن الإندونيسيون استقلالهم في 17 أغسطس 1945، لكن هولندا رفضت الاعتراف بذلك وقاتلت لإبقاء سيطرتها عليها، إلى أن اعترفت بها كدولة مستقلة في ديسمبر 1949. ويقال إنه خلال السنوات الأربع ما بين التاريخين ارتكبت القوات الهولندية فظائع نجم عنها مقتل نحو مائة ألف شخص.

جاء الاعتذار الهولندي غداة نشر دراسة شاملة وغير مسبوقة قامت بها ثلاث مؤسسات بحثية هولندية بتكليف من حكومتها، سعيًا وراء إحقاق العدالة وتبيض صفحة البلاد، وورد فيها أن الجيش الهولندي تجاهل القوانين والقواعد المكتوبة وغير المكتوبة وأقدم على جرائم وأعمال قاسية، علمًا بأن لاهاي ظلت على مدى عقود تصر على أن جيشها تصرف على نحو سليم خلال استعمارها لما كان يعرف بـ«جزر الهند الشرقية الهولندية»، وفي أوقات الضغط عليها كانت تزعم أن قواتها قد تكون ارتكبت مخالفات بسبب الضعف والإحباط في مواجهة تكتيكات حرب العصابات التي لم يكن بإمكانها التعامل معها باستخدام الوسائل العسكرية العادية.

لم يكن اعتذار مارك روتي هو الأول من نوعه، لكنه كان الأقوى والأوضح، إذ سبقه في عام 1968 قيام لاهاي بإصدار تقرير أقرت فيه بحصول «تجاوزات عنيفة» في إندونيسيا من قبل قواتها هناك، لكنها بررتها بأنها حدثت ردًا على حرب عصابات وهجمات إرهابية تعرضت لها من الإندونيسيين. وفي عام 2013 أعرب السفير الهولندي في جاكرتا عن ندمه على المجازر التي ارتكبها جيش بلاده لسحق المقاومة ضد الحكم الاستعماري، خصوصًا في جزيرتي جاوة وسولاويزي. وفي مارس 2020، قدم العاهل الهولندي الملك فيليم ألكسندر في أثناء زيارته الرسمية الأولى لجاكرتا، اعتذاره قائلاً: «أود أن أعرب عن أسفي وأن أعتذر هنا عن العنف المفرط من جانب الهولنديين في تلك السنوات. أنا أفعل ذلك مع وعي تام بأن آلام وحزن العائلات المتضررة سيستمر لأجيال». وتلا حديث العاهل الهولندي عرض من لاهاي لدفع تعويضات بقيمة 5600 دولار لذوي كل طفل تسببت هولندا في مقتله، وهو نفس المبلغ الذي حكمت به محكمة هولندية في عام 2013 لكل أرملة من أرامل 431 رجلاً ذبحهم مجندون هولنديون في إحدى قرى جاوة الغربية عام 1947.

ما يعنينا في الاعتذار الهولندي الأخير في فبراير 2022 أنه فتح الباب للحديث المستفيض عن مبدأ «الاعتذار ما بعد الاستعمار»، وهو قضية شائكة ومعقدة ذات جوانب مختلفة. صحيح أن القرن الحالي شهد ظهور مراجعات من قبل بعض الدول الأوروبية لماضيها الاستعماري واعتذارات وتعويضات غير متوقعة للضحايا، بعد أن كان السائد في القرن العشرين هو خطاب الإنكار واضفاء الشرعية على المبادئ الإمبريالية في مواجهة مطالبات بالاعتذار والتعويض عن جرائم ارتكبت في الماضي البعيد في سياق العلاقات بين المستعمَر والمستعمِر. لكن الصحيح أيضًا هو أن بعض الاعتذارات كانت جزئية وغير شاملة، وبعضها الآخر غير مصحوبة بالتعويضات، وبعضها الثالث مرفقة بتبريرات مثل أن مرتكب الجرائم والفظائع لم يكن الدولة الاستعمارية وإنما مستوطنون أو منظمات مستقلة عنها. هذا ناهيك عن الإشكالية التي يتعذر معها أن تعترف دولة ما بجرائمها كونها لم تكن قائمة بشكلها الحالي زمن وقوع تلك الجرائم، كحالة تركيا مع الإبادة الجماعية للأرمن التي حدثت زمن الدولة العثمانية.

الأمر الآخر الذي يعنينا في سياق هذا الحديث هو أن اعتذار الهولندي الأخير شرع الأبواب أمام إندونيسيين كثر للتساؤل عمن سيعوضهم عن الآلام والانتهاكات والمذابح التي ارتكبتها قواتهم الوطنية قبل وبعد الاستقلال عن هولندا، في إشارة إلى قيام مقاتلي الحرية بقتل نحو 6000 من الأوراسيين والملوكيين والأقليات الأخرى في أثناء المرحلة الأولى من حرب الاستقلال، وإشارة أيضًا إلى حملة الحكومة الانتقامية في الستينات ضد الحزب الشيوعي الإندونيسي والتي أودت بحياة ما لا يقل عن نصف مليون مواطن، وصولاً إلى المجازر التي ارتكبتها حكومة الرئيس الأسبق الديكتاتور سوهارتو بحق أنصار الديمقراطية وبحق شعب تيمور الشرقية قبل أن ينجحوا في انتزاع استقلالهم عام 1999.

والحقيقة أن ما شجع هؤلاء الإندونيسيين على نبش عذابات الماضي، ليس الاعتذار الهولندي وحده، وإنما أيضًا حقيقة أن السرديات الإندونيسية عن فترة النضال من أجل الاستقلال والفترات اللاحقة من عمر الدولة الوطنية المستقلة متناثرة وغير شاملة ودقيقة. وهذا دفع كاتب عمود معروف مثل إندي بايونين للتعليق على الاعتذار الهولندي بقوله: «نحتاج أيضًا إلى إعادة النظر في تاريخنا وإخراج جميع الهياكل العظمية من الخزانة»، بمعنى ضرورة الغوص عميقًا في سائر الأحداث الدموية المؤسفة التي شهدتها إندونيسيا منذ الأيام الأولى لقيام الجمهورية وحتى نجاح الشعب في إسقاط الديكتاتورية العسكرية سنة 1998.