في لحظة أوروبية حرجة للغاية، حقّق "الدكتاتور" فيكتور أوربان انتصاراً ساحقاً في الانتخابات التشريعية المجرية، مرسّخاً نفسه في منصب رئيس الحكومة، لفترة أربع سنوات جديدة، تضاف الى إثنتي عشرة سنة مضت.
وكان رئيس رئيس المفوّضية الأوروبية جان كلود يونكر، قد ألقى لقب "الدكتاتور" على أوربان في أيار/ مايو 2015، بسبب انحرافه ببلاده عن مبادئ الإتحاد الأوروبي، من خلال المس بأسس دولة القانون، مثل تقييد استقلالية السلطة القضائية ووضع اليد على وسائل الإعلام واضطهاد المثليين جنسياً ونبذ المهاجرين والتمنّع عن المشاركة في توزيع عبئهم أوروبيا، ناهيك عن مقارباته المعادية لتوجّهات بروكسيل.
ومع مرور السنوات، لم تتغيّر النظرة الأوروبية الى هذا الزعيم المجري، بل ترسّخت أكثر فأكثر، وقد دخل في أكثر من نزاع مع المفوضية الأوروبية، وكاد، لولا "الحلول الوسطى" التي طالما اقترحتها ألمانيا، ييتسبّب في تجميد قرارات في غاية الحيوية لمجمل دول الإتحاد، كما هي الحال مع الميزانيات التي تقرّر توزيعها، لتتمكّن الحكومات من الصمود في وجه تداعيات جائحة كوفيد-19.
وبسبب سلوك أوربان التسلّطي والفردي في الحكم، تمّ إدخال عدد من التعابير المثيرة الى القاموس السياسي الأوروبي، مثل "الديموقراطية المعادية لليبرالية" و"الديموقراتورية".
ويعتبر انتصار أوربان، بسيطرة حزبه على ما يفوق نسبة الثلثين في برلمان المجر، خبراً ممتازاً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إذ إنّ رئيس الوزراء المجري، على الرغم من عدم إخراج بلاده من الإتحاد الأوروبي، عمل على أن يكون عامل تنفيس لقرارات الغرب ضد موسكو، فيما تقاسم وبوتين المبادئ "المعادية لليبرالية".
في المقابل، فإنّ هذا الإنتصار يشكّل نكسة كبيرة للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي سبق له أن هاجم أوربان بالإسم، بسبب سلوكه "المتواطئ" مع روسيا، ليس من خلال وقوفه دون تشديد العقوبات الأوروبية على روسيا لتطال استيراد الغاز والنفط منها بفاتورة تصل يومياً الى مستوى ثمانمائة مليون دولار أورو، فحسب بل لأنّه، أيضاً رفض تزويد أوكرانيا بالأسلحة، ومنع تمرير تلك الممنوحة لها من دول ثالثة، عبر حدودهما المشتركة.
وهذه أوّل انتكاسة شعبية للرئيس الأوكراني الذي تتعاطى معه غالبية الأوروبيين، على أساس أنّه "بطل"، بسبب قيادته لمقاومة فاعلة ضد القوات الروسية التي تغزو بلاده، وإن كان الموقف الثابت لحليفة المجر السابقة بولندا، من شأنه أن يُخفّف من وطأة هذه الإنتكاسة، على اعتبار أنّ بولندا تضع ثقلها العسكري والجغرافي والسياسي والدبلوماسي والمالي في خدمة أوكرانيا، وهي لم تنفض يدها من شراكة "معادية لليبرالية" مع أوربان فحسب ، بل ذهبت أبعد من ذلك، إذ توّلت التهجّم على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، على بعد أقل من أسبوع واحد عن الدورة الأولى للإنتخابات الرئاسية، لأنّه يصر على إبقاء قناة تواصله المباشرة مع بوتين ناشطة جداً، أيضاً.
وعجز تحالف حزبي غير مسبوق في المجر ضمّ أحزاب المعارضة من أقصى اليسار الى أقصى اليمين، عن تحقيق أيّ هدف سياسي معقول في الانتخابات التشريعية التي انتهت يوم الأحد الأخير، فهو فشل في إزاحته عن موقعه كما فشل أيضاً في منع الموجة الشعبية المؤيّدة له من أن ترتفع أكثر فأكثر وتعطيه أكثرية ساحقة في البرلمان.
ويعيد قادة أوروبيون ومحلّلون سياسيون أسباب هذا الإنجاز إلى أنّ الناخب المجري، وبفعل الإنحرافات عن جادة الديموقراطية التي قادها أوربان، لم يعد "ناخباً واعياً" بل أصبح "ناخباً مسيّراً"، بسبب سيطرة رئيس الوزراء على وسائل الإعلام، وإمساكه بالسلطة القضائية، ووضع "أزلامه" في المراكز الأساسية في البلاد، وتالياً فإنّ المعارضة تخوض ضدّه معركة غير متكافئة، إذ إنّها تتوسّل الوسائل الديموقراطية في وجه خصم تسلّطي سبق له أن ألغاها، هنا وأضعف مفاعيلها، هناك.
ولكنّ "الإتحاد الأوروبي" الذي يخوض مواجهة مفتوحة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ليس في وارد أن يفتح ملف "شرعية " الانتخابات المجرية، بل سوف يصب جهوده على منع تحويل انتصار أوربان الى اختراق روسي لفاعلية "الإتحاد الأوروبي" ووحدته وأدوات الضغط التي يملكها.
وثمّة مخاوف من أن يؤدّي هذا الإنتصار الذي حققه فيكتور أوربان الى تشدّد في التعامل مع سائر الدول الأوروبية، فهو في فترة الحملة الانتخابية، اتّخذ مواقف "معتدلة" من الغزو الروسي، فانضمّ الى المندّدين به، ووافق على حزمة من العقوبات القوية، ولكنّه وقف، في الإتحاد الأوروبي، دون وصول العقوبات الى مستوى الغاز والنفط، ووقف على حدود بلاده مانعاً تمرير الأسلحة الى أوكرانيا.
حالياً، وفي ضوء هذا الإنتصار، يترقّب الجميع مواقف المجر من التوجّه الأوروبي الهادف الى إنزال حزمة جديدة من العقوبات بحق روسيا المشتبه بارتكابها جرائم حرب في عدد من المدن الأوكرانية.
وفيكتور أوربان ليس وحيداً في أوروبا، ففي فرنسا، مثلاً، لديه "حلفاء" يؤيّدون توجّهاته المتشددة ومعاركه ضد المهاجرين، وهم مثله من الفئة "غير المعجبة " بزيلينسكي، ولكنّهم لا يزالون في المعارضة.
في الإستطلاعات التي تحاول قياس اتجاهات الرأي العام في الانتخابات الرئاسية الفرنسية، يظهر أنّ شعبية الرئيس المرشّح إيمانويل ماكرون تشهد انخفاضاً "غير دراماتيكي" فيما شعبية رئيسة حزب "التجمّع الوطني" مارين لوبان ارتفعت الى مستوى منافسته في الدورة الثانية، مع تقليص الفارق بينهما.
وإذا كانت مارين لوبان تعتمد خطاباً إنتخابياً ملطّفاً، فإنّ المرشّح أريك زيمور الذي يتوسّل خطاباً شبيهاً بخطاب رئيس الوزراء المجري، بات ينافس على المركز الرابع، بعد تراجع حصّة مؤيّديه في استطلاعات الرأي.
ولكنّ شعبية زيمور، في حال رسّخت صناديق الإقتراع توقعات استطلاعات الرأي، سوف تذهب، بنسبة ساحقة، في الدورة الانتخابية الثانية والأخيرة في الرابع والعشرين من نيسان /أبريل الجاري، الى مارين لوبان لتضاف الى نسب أخرى سوف تكسبها من الأحزاب الأخرى بما فيها "اليمين المعتدل"، ممّا بدأ يثير المخاوف في فريق ماكرون الذي لا يتبادل لا الأفكار ولا الود مع فيكتور أوربان، خلافاً لما هي عليه حقيقة تطلّعات لوبان.
وهذه المخاوف التي يبديها "الماكرونيون"، وإن كان أحد ملامحها يهدف الى حثّ الناخبين على التوجّه الى صناديق الإقتراع التي سوف تشهد، وفق استطلاعات الرأي، مقاطعة تصل الى مستوى ثلاثين في المائة في الدورة الأولى، إلّا أنّ ملامحها الأخرى، تنطلق من وجود قلق جدّي من استمرار ارتفاع الدينامية المؤيّدة لتوجّهات "اليمين المتطرّف" في فرنسا.
وفي حال حصلت المفاجأة في فرنسا، وأسقط "اليمين المتطرّف" ماكرون فإنّ وجه أوروبا سوف يتغيّر، وسوف تعم الإحتفالات ليس في المجر فحسب حيث يعتبر أوربان "عدواً عقائدياً" لماكرون، بل حتى في روسيا، حيث توصف "الصداقة" التي تربط بوتين بماكرون بأنّها ماكرة وخبيثة و...نفعية.
- آخر تحديث :
التعليقات