هل يمكن قياس احتياجات الأجيال القادمة من أجل مراعاتها؟ كيف نستطيع أن تقدر تكاليف جودة البيئة والخدمات البيئية؟ ما هو المبلغ الذي يجب إنفاقه لمنع انقراض نوع حيواني أو نباتي؟ ما هي قيمة الخسارة التي يمكن أن نتكبدها بسبب تقليص التنوع البيولوجي أو تدهور الغابات المطيرة؟ الاستدامة هي الهدف العام المقبول على نطاق واسع ولكن لا يوجد اتفاق على تعريف هذا المصطلح. لا يمكن الإجابة على هذه الاستفهامات لأن التحليل الفعال لتقدير التكلفة ليس مباشرًا.

لكن ما يعرف بالاقتصاد الأخضر (أو البيئي) وهو فرع متنام للاقتصاد يتعامل مع البيئة والتلوث وتغير المناخ، ومن ثم تداعيات السوق دامجاً المفهوم المعتاد للدخل القومي والنمو الاقتصادي مع عوامل ومفاهيم خارجية بعيدة عن الموضوع (concept of externalities) من أجل قياس الآثار السلبية خارج السوق على صحة البشر وأشكال الحياة الأخرى، وعلى النظم البيئية وعلى المناخ.

هذا هو موضوع كتاب «روح الأخضر: اقتصاديات الاصطدام والعدوى في عالم مزدحم» يقيس سلامة البيئة من منظور استطرادي أوسع للمجالات الاقتصادية والبيئية تفتح التفكير نحو رؤى أبعد لتقدير إجمالي التكاليف، لمؤلفه ويليام نوردهاوس الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد عام 2018 لدمجه تغير المناخ في تحليل الاقتصاد الكلي، وبما لديه من نهج فريد في تطبيق الفكر الاقتصادي على الموضوعات البيئية.

منهج علم الاقتصاد السائد يهتم أساساً بتشغيل اقتصاد السوق ويقيس العوامل المباشرة الداخلية والخارجية؛ فمثلاً يقيس الاقتصاديون نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي كمؤشر على مستوى المعيشة في الدولة، لكنه لا يستطيع قياس أو الإجابة على أسئلة المقدمة. صحيح أن الاقتصاد السائد يهتم بالآثار الجانبية لتدهور البيئة وتغير المناخ، وأن معظم الاقتصاديين يعترفون بأهمية هذه العوامل الخارجية ولكنهم يعتبرونها إخفاقات في السوق يجب معالجتها عن طريق تغيير الأسعار المرتبطة بالملوثات؛ على سبيل المثال: فرض ضريبة على انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وعلى العوامل الخارجية الضارة الأخرى، إنما ينبغي تصميم أي خطة للتدخل الضريبي على النحو الأمثل، بمعنى أن تكون فوائده الحدية مساوية لتكلفته الحدية لتحقيق «مستوى التلوث الأمثل».

الكتاب يقدم حلولًا حول كيفية تسعير الكربون، وكيفية متابعة تقنيات منخفضة الكربون، وكيفية تصميم نظام ضريبي فعَّال، وكيفية تعزيز التعاون الدولي لتحسين المناخ؛ حيث يناقش المؤلف تكاليف الانبعاثات وإمكانية خفضها.. فخفض الانبعاثات مكلف للغاية، تتراوح تكلفته «بين 2 و 6 % من الدخل العالمي.. لتحقيق الأهداف الدولية»؛ ويقر بأنه بينما «يمكن تصور اكتشاف اختراقات تكنولوجية هائلة يمكن أن تقلل التكاليف بشكل كبير، إلا أن الخبراء لا يرونها في المستقبل القريب». ولكن كما يلاحظ بول رومر، الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد، هناك مجال أكبر بكثير للتفاؤل المشروط بشأن قدرتنا على إزالة الكربون من الاقتصاد العالمي بطريقة فعالة من حيث التكلفة (ديمتري زينجيليس، كلية لندن للاقتصاد).

خفض التكاليف تتشكل من خلال الابتكار. بمجرد أن تصبح تقنية متكاملة عالمياً وقادرة على المنافسة بدرجة كافية، فإن اقتصاديات الحجم في الإنتاج (تناسب زيادة الإنتاج مع خفض التكاليف) والاكتشافات تسمح لها بخفض التكاليف وتغيير البيئة بأكملها التي تعمل فيها. يقول زينجيليس: إن تفضيل نوردهاوس لسعر عالمي موحد للكربون يزيد بمرور الوقت، يقوم على أساس جدول تخفيف هامشي ثابت حيث يختار المستثمرون تخفيضات الانبعاثات الأكثر فعالية من حيث التكلفة على الهامش. لكن العديد من الاقتصاديين يجادلون بأن تحفيز الابتكار قد يتطلب في الواقع تحميلًا أوليًا سعرًا مرتفعًا للكربون بشكل موثوق به والتركيز على القطاعات الأكثر تكلفة لبدء الابتكار حيث تكون احتمالية خفض التكاليف أكبر.

يعرض الكتاب رؤيته عبر مشهد واسع جدا لا يقتصر على الاقتصاد بل يدمجه مع الأخلاق والبيئة لإعادة التفكير في الكفاءة الاقتصادية، والاستدامة، والسياسة، والأرباح، والضرائب، والأخلاق الفردية، والمسؤولية الاجتماعية للشركات، والتمويل، وغير ذلك ما من شأنه أن يحسن الفعالية والإنصاف في المجتمع.. تعتمد على ما توصل إليه المؤلف من سلسلة التجارب الرائدة التي أجراها في دراساته البحثية، مفصلاً نطاق وقيود المحاسبة الخضراء، ومؤكداً على أهمية البيانات الجيدة لإدارة الموارد البيئية وتوجيه القرارات.

نوردهاوس يؤكد على أهمية الموضوعية وتجنب الأيديولوجية لصالح الأدلة الواقعية، متخذاً نهجاً وسطياً في منتصف الطريق بين نهج أقصى اليسار و»الحركة الخضراء العميقة» ونهج «التربح» في أقصى اليمين. يرى نوردهاوس أن الاقتصادي البيئي المكلف بتقدير تكاليف وفوائد الضرائب واللوائح يواجه مهمة صعبة، ولكن حتى لو توصل الاقتصاديون إلى اتفاق، فهناك عقبة رئيسية ثانية ستواجه الحكومات في تنفيذ التدابير اللازمة لحماية السلع العامة (على سبيل المثال، من خلال فرض الضرائب) ويتطلب مثل هذا الإجراء الحكومي إقناع عامة الناس بجدوى ذلك من خلال توفير معلومات واضحة، وإرشادات استهلاكية من قبل الاقتصاديين السلوكيين.

الأسئلة البيئية الكبرى في عصرنا لا تزال في حاجة للمزيد من البحث للحصول على إجابات أوضح تتعلق بالتحولات الأساسية والكوارث المحتملة على النظام البيئي والتغير المناخي.. كوارث يخشى العلماء أنها ربما تتراكم لدرجة وصولها إلى مرحلة لا رجعة فيها فقد نندم حين لا ينفع الندم.