لا تخلو الانتخابات الفرنسية ومثيلاتها في العالم المتقدّم من إلحاق الأذى العميق بمجموعات واسعة من المهاجرين الى هذه الدول، حتى لو كانوا من حملة جنسياتها.
ومنذ نهاية القرن الماضي، على الأقل، تحوّل المهاجرون، بفعل صعود اليمين المتطرّف، إلى عنوان رئيس في الحملات الانتخابية، بحيث يلمع نجم هؤلاء الذين يحمّله كلّ السلبيات التي يعاني منها المجتمع: الجريمة، الإنفاق الاجتماعي، البطالة، التطرّف، الإرهاب، الفقر وتغيير هوية البلاد.
وينغمس جميع المعنيين بالحملات الانتخابية في الخوض في غمار هذا العنوان، سواء من موقع المهاجم والمتصدّي لـ"هذه الآفة"، أو من موقع المدافع والمتفهّم.
وبعد كل دورة انتخابية، أرئاسية كانت أم تشريعية، يجد المهاجرون المقيمون في هذه الدول أنفسهم، وإن انتفضوا ضدّ من يهاجمونهم وحمدوا من يدافعون عنهم، في موقع المتّهم الذي يخشى أن تفضحه لكنته، وأن يؤشّر إليه لونه، وأن يحاصره اسمه الشخصي أو العائلي، وأن يدل عليه حديثه بلغة الوطن الأم الذي يتبادله على الهاتف مع متّصل أو في قهوة مع صديق "عربوفوني".
وفي هذا الصدد، لا يقع اللوم على الشعب "المضيف"، سواء أكان ينتمي الى فئة الرافضين أم إلى فئة "المحسنين"، بل على الدول التي ترمي أبناءها على قارعة...الأمم!
كما أنّ النقاش لا قيمة له في التدليل على الخدمات الجمّة التي قدّمها المهاجرون لهذه الدول التي هي من دون شك بحاجة ملحّة إليهم، على اعتبار أنّ النقاش السليم يتمحور حول الأسباب التي جعلت هؤلاء يتركون أوطانهم ليجدوا الملاذ في المهاجر.
وفي واقع الحال، إنّ الهجرة، في غالبية الأحيان، ليست خياراً بل هي اضطرار تولّده الحروب والقمع والإضطهاد والتفقير والترهيب والإنهيارات وغير ذلك من الكوارث التي تصيب الدول المصدّرة لأبنائها.
وبعض ديكتاتوريات القرن الماضي كانت قد اعتمدت، بصورة رسمية، على "تجارة الهجرة" من أجل أن توفّر لنفسها تدفّق العملات الصعبة، كما هي عليه حال الديكتاتور الإسباني الراحل فرانسيسكو فرانكو الذي فيما كانت بلاده غارقة في الجوع وجاراتها الأوروبيات تقود أكبر ورشة إعمارية وصناعية، سهر على فتح خطوط التهجير لملايين من مواطنيه إلى تلك الدول.
لم يكن الإسبانيون مضطرين للهجرة، ولكنّ نظام فرانكو الذي احترف القتل والإضطهاد والقمع والذل والفساد والمحسوبية، أوصلهم إلى ما دون خطّ الفقر، وحوّل الهجرة الى...قدر.
الهجرات الحديثة التي يهاجمها اليمين المتطرّف على امتداد الغرب ليست ناجمة عن "تجارة" الأنظمة ولكنّها وليدتها، في غالبية الأحيان.
لبنانياً، وقبل أن تحل الكارثة الاقتصادية-المالية تحت ضربات الطبقة الحاكمة بمعناها الواسع، على اعتبار أنّ الحاكم الدستوري ليس سوى واجهة لذاك المستبد غير الدستوري ولتلك المافيا المتستّرة في الميليشيات والرئاسات والوزارات والمجالس النيابية والقضاء والإدارة والأمن والمصارف، كان كثير من اللبنانيين يعملون على تنظيم عودتهم النهائية الى وطنهم الأم، ولكنّ حلول الكارثة بدل أن يعيد الكثيرين أوجد موجات هجرة جديدة، وبوتيرة لم يشهد لبنان مثيلاً لها إلّا في أزمنة اشتداد وطأة الحروب.
وسورياً، بدل أن يرتضي بشّار الأسد بإرادة شعبه في التطوير والتحديث والتغيير، شنّ حرباً شعواء عليهم، فأغرق دول الجوار كما الكثير من الدول الغربية بالمهاجرين الذين، إن كان بعضهم قد استُقبل على أساس "إنساني" فإن الكثيرين قد عوملوا معاملة قاسية، وهم حالياً جزء أساسي في الحملات على المهاجرين التي يعتمدها اليمين المتطرّف في الغرب وأمثاله في الشرق، للوصول الى السلطة أو التمترس فيها.
وهذه هي الحال أيضاً في العراق واليمن وإيران وليبيا والمغرب والجزائر وإفريقيا وغيرها من دول تصدير البشر.
وهذه الدول التي يُظهر بعض حكّامها، مباشرة أو عبر الموالين لهم، ارتياحهم للتخلّص من أعباء وجود من يُفترض أن يكونوا مواطنيهم، لم تكن مضطّرة، كما هي عليه حالياً وضعية أوكرانيا التي تقاوم غزو روسيا المصنّفة ثاني قوة عسكرية عالمية، لتهجير أبنائها، إذ إنّه كان يمكنها أن تنتهج سياسة طبيعية لتقيم نظاماً طبيعياً، لكنّ طغيان حكّامها "المؤلّهين" وفسادهم اللامحدود وفشلهم المدوّي وأنانياتهم الإجرامية، حوّلها الى جحيم، وصوّر دول المهاجر كما لو كانت الفردوس.
لا تخلو دولة من وجود مهاجرين، ولكنّ الهجرة من الدول الطبيعية تمتاز ب "الإنتقائية المتبادلة" النابعة من إرادة المهاجر والدول المضيفة، وهي لا تُثير غضب أحد ولا يمكنها أن تكون عنصر استغلال في الحملات الإنتخابية، في حين أنّ الهجرة المشكو منها هي تلك الهجرة التي يتسبّب بها نهج الحكّام.
في واقع الحال، إنّ المهاجِر، في هذا الزمن، هو ضحية وطنه الذي "طرده" بعدما أقفل أمامه سبل العيش، كما هو "ضحية" اليمين المتطرّف الذي يُلقي عليه تبِعة كلّ أمراض المجتمع.
لا حلّ لهذه المعضلة التي تنتقل من جيل الى جيل ومن دولة الى أخرى، إلّا في بذل مزيد من الجهود، من أجل تخليص الدول المهجِّرة من حكّامها "الفرانكوويّين"، بمعونة الدول التي يشكو يمينها المتطرّف من المهاجرين، إذ إنّ زعماء هذا اليمين بالتحديد، فيما ينقضّون على المهاجرين، تجدهم في قائمة "عشّاق" المستبدّين الذين يصنعون التهجير، فمارين لوبان، مثلاً، تكره "تسلّط" إيمانويل ماكرون ولكنّها تقبع في رأس قائمة "عشّاق" بشّار الأسد ومن يدور في فلكه، وفلاديمير بوتين وأشباهه، مثلها مثل رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان الذي أرسل وزير خارجيته، يوماً، إلى لبنان ليُطمئن جبران باسيل، حليف "حزب الله" وبشّار الأسد، بأنّه سوف يحميه من العقوبات الأوروبية التي كانت تتطلّع فرنسا إلى فرضها عليه، بسبب دوره في عرقلة المسار الإنقاذي، وتالياً في تزخيم حركة المهاجرين.
إنّ الانتخابات الرئاسية الفرنسية، بعيداً من انعكاساتها الجيو سياسية، نكأت، مجدّداً، جراح المهاجرين الذين هم، بالنتيجة، ضحايا أنظمة أفسدت الدول التي وُلدوا فيها، وضحايا "شعبوية" غربية تحوّلهم الى سلّم تتوسّله للإمساك بالسلطة.
- آخر تحديث :
التعليقات