تعددت الصفات التي أُطلقت على الاتفاق الذي وقّعه لبنان مؤخراً مع صندوق النقد الدولي، بين «اتفاق مبدئي» و«اتفاق إطار» و«اتفاق تفاهم». ولعل الأصح كما سمته بعثة الصندوق بأنه «اتفاق على مستوى الموظفين»، لأنه أكثر من «تشاور» وأقل من «اتفاق». ويهدف الوصول إلى برنامج تمويل قيمته ثلاثة مليارات دولار، ويمتد أربعة أعوام بمعدل 750 مليون دولار سنوياً. في حين أثبتت الدراسات أن حاجة لبنان إلى قروض ومساعدات خارجية لا تقل عن سبعة مليارات دولار سنوياً.
ورغم ضآلة المبلغ الذي سيقدمه الصندوق، ونظراً لانعدام«ثقته» بالسلطة الحاكمة، فقد رهن موافقةَ مجلس إدارته على تنفيذ الإصلاحات بإصدار القوانين المتعلقة بها، وربط دفع المبالغ مع كل خطوة إنفاقية، خصوصاً بعد تجربة غير مشجعة طوال عقدين من الزمن، وعد لبنان بمساعدات بنحو 33 مليار دولار، لكنه لم يصرف منها سوى النزر اليسير، نتيجة «الاستعصاء اللبناني» على الإصلاحات التي أكدت عليها سلسلة مؤتمرات للدول والجهات المانحة، وكان آخرها مؤتمر «سيدر» عام 2018 الذي خصص برنامج تمويل بقيمة 11.7 مليار دولار.
لقد كانت الحكومات المتعاقبة تنفق، من دون أن تنفذ أياً من الإصلاحات التي تعهدت بها. وتواصل هذا الإنفاق على قاعدة «المحاصصة» بين الأحزاب، وتقاسم «المكاسب» لتغذية مصالح فئوية وطائفية. ولوحظ أن البيان الرسمي الصادر مؤخراً عن الصندوق، احتاط لهذا الأمر، مؤكداً على «التزام السلطات اللبنانية القوي بمواصلة تطبيق الإصلاحات خلال الانتخابات النيابية والرئاسية المقبلة». وقصد بذلك التزام السلطة السياسية الجديدة.
ولذلك من الطبيعي أن تتأخر عملية وضع الاتفاق مع الصندوق موضعَ التنفيذ الفعلي قبل العام المقبل، وريثما تكون السلطات اللبنانية قد أقرّت القوانين المتعلقة بتنفيذ الإصلاحات، وهو أمر قد يطول بسبب الخلاف السياسي المستحكم بين الأحزاب، وهذا ما أكده فشل الاتفاق على إصدار قانون «الكابيتال كونترول». ولوحظ أن بعض خبراء الصندوق قد استاء من السلطة السياسية الحالية التي استمرت في الاستدانة من مصرف لبنان خلافاً لاتفاق «التفاهم بين الموظفين»، وقبل أن يجف حبره، وفي الوقت نفسه أقدمت الحكومةُ على صرف مبلغ 90 مليون دولار من إجمالي حقوق السحب الخاصة التي تلقاها لبنان من الصندوق، لتغطية مستحقات على مؤسسة الكهرباء بقيمة 60 مليون دولار، ومستوردات ملحة من القمح والأدوية بمبلغ 30 مليون دولار، وهو أمر مخالف لقرار سابق بعدم المس بهذه الأموال إلى حين استثمارها في مشروعات ضمن خطة التعافي والنهوض الاقتصادي.
وبما أن النظام السياسي اللبناني بتقسيماته الطائفية، لا يزال في رأي المجتمع الدولي، يشكل عقبةً كبيرةً أمام الإصلاحات، ونظراً لأزمة «الثقة» المستمرة، فإن الدعم الدولي لن يتوفر ما لم يتم تطبيق برنامج صندوق النقد وشروطه. ومع الأخذ بالاعتبار احتمال حصول «الفراغ التعطيلي» بعد الانتخابات النيابية، في حال تعثر تشكيل حكومة وانتخاب رئيس جديد للجمهورية للمرحلة المقبلة، توقع معهد التمويل الدولي أن يكون لبنان أمام سيناريوهين متناقضين: الأول متفائل، يفترض أن تقدم الحكومة على تنفيذ الإصلاحات بعد إقرارها من قبل البرلمان الجديد، وتؤدي إلى اتفاق مع الصندوق في يونيو المقبل. أما الثاني فهو سيناريو متشائم، ويفترض إصلاحات جزئية، وعدم الاتفاق مع الصندوق، ونقص في التمويل الخارجي، بما يؤدي إلى تواصل الانهيار الاقتصادي، وإلى مزيد من التدهور لسعر صرف الليرة وتراجع الاحتياط النقدي.