تونس كانت الاستثناء من القاعدة في ما قادت إليه ثورات "الربيع العربي" من فوضى ودمار وفقر وتدخلات خارجية وحروب أهلية لا تنتهي. والسودان كان النموذج الواعد في الموجة الثانية من "الربيع"، ثورة شعبية سلمية منظمة واجهت العنف والقتل في الشارع خلال أكثر من عام تمكنت بانضمام الجيش إليها من إسقاط نظام "إخواني" أصولي قاده الفريق عمر البشير على مدى ثلث قرن. لكن التجربة الديمقراطية في تونس تعرضت لمناورات أحزاب يقودها شخصانيون أنانيون قصيرو النظر وبعضهم فاسد. وتلاعبت بها حركة "النهضة" الإسلامية الإخوانية موحيةً أنها تلعب حسب قواعد الديمقراطية، وهي تخطط حتى بالعنف عبر جهاز سري، لتصفية الديمقراطيين والانتقال إلى نظام أصولي سلطوي. وتجربة الشراكة بين المكون المدني والمكون العسكري في المرحلة الانتقالية انتكست بانقلاب العسكر على الشريك المدني. حال تونس قادت إلى "ثورة من فوق" قام بها رئيس الجمهورية قيس سعيد. وحال السودان أدت إلى لعبة سلطة بلا أُفق. فما بدا سهلاً صار الصعب والمعقد. وما قيل إنه مخرج من مأزق ظهر كمأزق أعمق.
ذلك أن الرئيس قيس سعيد أراد إخراج تونس من ورطة، فأوقع نفسه والجمهورية في ورطة. ومن السهل عليه أن يحكم بمراسيم جمهورية بعدما حل الحكومة وعطل المجلس النيابي، قبل أن يحله، وأوقف العمل بأجزاء من الدستور بمرسوم 25 يوليو (تموز). لكن من الصعب عليه، وإن كانت شعبيته عالية، أن يواجه قوى في اليسار واليمين والوسط من دون أن يكون قادراً على حل الأزمة الاقتصادية ومشكلات البطالة والمعيشة. حتى "الاتحاد العام التونسي للشغل" الذي دعم سعيد، فإنه افتقد المشاركة والحوار الوطني الفعلي لا عبر الإنترنت. وهو انتقد في بيان أخير له "غياب الإرادة السياسية في تطبيق مبدأ التشاركية" واستغرب "انعدام الرؤية الشاملة والإصرار على التمسك بالرأي الشخصي والتفرد بامتلاك الحقيقة"، فالغموض يلف المشروع الذي يعمل له رئيس الجمهورية طارحاً ثلاث لاءات، "لا حوار إلا مع الوطنيين، لا اعتراف بمن حملوا السلاح ضد الدولة، ولا مفاوضات إلا مع من يقبل إرادة الشعب".

في ندوة عام 2017 قبل الرئاسة، هاجم سعيد المنظومة السياسية التي حكمت تونس في عهد بورقيبة وعهد بن علي ثم بعد إسقاط السلطوية وانتقد "التلاعب بالبرلمان ونظام الاقتراع واختراق الأطراف السياسية للبرلمان والقضاء والمجلس الأعلى للقضاء". لا بل طالب بإنهاء "السياسيين الذين التفوا بعد ثورة 2011 على الانتفاضة الاجتماعية للشباب وانقلبوا على ثورة الشعب والمهمشين ومطالبهم الاجتماعية". ودعا إلى "مراجعات واعتماد نظام سياسي جديد لا يتغول فيه السياسيون ومسؤولو الأحزاب، كما إلى الاقتراع على أساس النظام الفردي بدل نظام القوائم". ولا أحد يعرف كيف تكون الانتخابات والبرلمانات بلا أحزاب سياسية. لكن هناك من يقول إن سعيد يعمل على نسخة معدلة من "القذافية" والحكم تحت عنوان "المجالس الشعبية". وهو شكّل أخيراً لجنة لكتابة دستور لـ "جمهورية جديدة" كأنه يبدأ من الصفر.
والعسكر في السودان أوقعوا أنفسهم في ورطة وقادوا البلد إلى ورطة أعمق. فلا هم استطاعوا حتى ممارسة السلطة وخدمة الشعب ومنع الاقتتال في دارفور وسواها، قبل الحديث عن بناء دولة. ولا هم تمكنوا من تشكيل حكومة مدنية موالية لهم، بصرف النظر عن كون المطلوب حكومة تمثل الشعب الثائر. وليس قليلاً ما سمعه الفريق عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة، من مبعوثي أميركا ودول أوروبا إلى أفريقيا. إذ دعا هؤلاء إلى "تقدم فوري باتجاه تكوين حكومة مدنية انتقالية عبر العملية التي تعمل الأمم المتحدة مع الاتحاد الأفريقي وإيغاد على تيسيرها". وهم حذروا من "إعادة أنصار النظام السابق إلى المناصب التي أخرجوا منها بعد الثورة، ومن تشكيل حكومة ناتجة من إجراءات غير شاملة". وبيت القصيد هو التهديد الواضح، "لا دعم ولا إعفاء من الديون إلا بتكوين حكومة مدنية ذات صدقية". وتلك هي المسألة. فالعسكر متمسكون بسلطة يعجزون عن ممارستها، ويضيعون الفرص المفتوحة عربياً ودولياً أمام السودان وشعبه، ولا شيء يمنع قيام انقلاب عسكري على الانقلاب وربما سلسلة انقلابات تبعاً لطموح هذا الضابط أو ذاك ومصلحة هذه الدولة المؤثرة أو تلك. ولا أحد يستطيع إنهاء الثورة. والسلطوية لها تاريخ في تونس. وضباط الجيش السوداني هم من صناعة البشير والإخوان. وها هم المسؤولون السابقون في نظام البشير يعلنون عودة الجماعة الإسلامية إلى التجمع والعمل ضمن ثلاث مراحل، التنسيق الشامل بين المنظمات، والتوحيد الجزئي لقطاعات الطلاب والشباب والمرأة، والاندماج الكامل.