يعطي اختيار الرئيس إيمانويل ماكرون لكاترين كولونا كي تكون وزيرة للخارجية الفرنسيّة فكرة عن الهمّ الذي يشغل بال كل دولة أوروبيّة في هذه الأيام. إنّه الهمّ الأوكراني الذي يطغى على كلّ ما عداه، خصوصا أنّ كولونا التي تعتبر من بين أكثر الديبلوماسيين الفرنسيين خبرة في شؤون العالم، بما في ذلك الخليج والشرق الأوسط، هي قبل كلّ شيء مختصة بأوروبا.

ليس صدفة أن يكون آخر منصب شغلته قبل أن تصبح وزيرة للخارجيّة هو موقع السفير الفرنسي في لندن. يؤكّد مثل هذا الموقع، في الوقت الذي تمرّ فيه العلاقات الفرنسيّة – البريطانيّة في مرحلة دقيقة، بعد خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، مدى الثقة التي يضعها ماكرون في كولونا.

يبحث الرئيس الفرنسي عن مخرج لفلاديمير بوتين مدركا أنّه لم يعد أمامه غير خيار التصعيد نتيجة مواجهته طريقا مسدودا في أوكرانيا… وبعدما بدأت أوروبا تظهر ميلا إلى فقدان أي أمل بالرئيس الروسي والقدرة على التعاطي معه مستقبلا.

بالنسبة إلى أوروبا، أعاد بوتين العالم إلى أيّام الحرب الباردة بعدما اعتقد أنّ الاتحاد السوفياتي لا يزال حيّا يرزق وأنّ في استطاعته استعادة أمجاده بمجرّد التلويح بالسلاح النووي.

أكثر من ذلك، أعاد بوتين الحياة إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو) مع سعي كلّ من فنلندا وأسوج للانضمام إلى الحلف في تحدّ واضح لروسيا وللرئيس الروسي شخصيا. تغيّرت أوروبا كلّيا بعد الحرب الروسيّة على أوكرانيا. استطاع الرئيس الروسي إحداث تغيير أوروبي في العمق لا يقلّ أهميّة عن ذلك الذي حصل عند محطتين تاريخيتين مرّ فيهما العالم هما نهاية الحرب العالميّة الثانية في العام 1945 وسقوط جدار برلين في تشرين الثاني – نوفمبر 1989. كان هذا السقوط خطوة أولى على طريق إعادة توحيد ألمانيا… وخروج دول أوروبا الشرقيّة من تحت الهيمنة السوفياتية.

تأتي كولونا إلى الخارجية الفرنسية بعد تخلّي فنلندا عن حيادها التاريخي بين القوتين العظميين إبان الحرب الباردة. طلبت رسميّا الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي. كذلك، من يصدّق أن أسوج، التي أدارت ظهرها لكل الحروب منذ العام 1814، يمكن أن تتّخذ في السنة 2022 خطوة من نوع الطلب أن تصبح عضوا في الأطلسي؟ وقفت أسوج موقف المتفرّج في الحرب العالميّة الأولى، كذلك في الحرب العالميّة الثانية. حاولت بين الحين والآخر أن تكون وسيطا في الأزمات الدولية، من نوع الحرب العراقيّة – الإيرانيّة بين 1980 و1988. لم تذهب يوما إلى أبعد من ذلك. حرصت في كلّ وقت على تفادي إغضاب الاتحاد السوفياتي، قبل سقوطه، ثم الاتحاد الروسي. استقبلت لاجئين من كلّ أنحاء العالم، خصوصا من الأكراد ومسيحيي العراق. سعت لعلاقات طيبة مع كلّ دول العالم معتمدة مقاييس ذات طابع إنساني. وهذا ما يغيظ، في ما يبدو، الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

يظلّ أهمّ ما تشهده أوروبا حاليا التغيير العميق في الموقف الألماني. لم يعد هناك ما يربط ألمانيا بروسيا. على العكس من ذلك، هناك انعدام كامل للثقة بين برلين وموسكو

ليست الحماسة التي تبديها فنلندا وأسوج تجاه الانضمام إلى الأطلسي سوى دليل على الرعب الذي يسود أوروبا. استطاع بوتين جعل أوروبا تعيش في ظلّ حال الرعب بعدما لجأ إلى القوّة من أجل إخضاع أوكرانيا بحجّة أنّها تنوي الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي. لم تعد أوكرانيا وحدها في المواجهة مع روسيا. يشهد العالم حاليا حربا بالوكالة بين روسيا والغرب الذي قرّر الدخول في مواجهة مع الرئيس الروسي بعدما تبيّن، مع مرور الأيام، أنّه ليس شخصا طبيعيا بأيّ مقياس.

باختصار شديد، لا خيار آخر أمام القارة العجوز سوى وضع حدّ لطموحات بوتين عن طريق التصدي له. إذا سقطت أوكرانيا، سقطت أيضا دول البلطيق، أي لاتفيا وإستونيا وليتوانيا. هذه الدول أخذت مبادرة الانفصال عن الاتحاد السوفياتي. إلى جانب ذلك، ليس في استطاعة دولة مثل بولندا سوى الشعور بالهلع بسبب تاريخ علاقتها بروسيا والتجارب المؤلمة التي مرّت فيها في الماضي البعيد والقريب…

يظلّ أهمّ ما تشهده أوروبا حاليا التغيير العميق في الموقف الألماني. لم يعد هناك ما يربط ألمانيا بروسيا. على العكس من ذلك، هناك انعدام كامل للثقة بين برلين وموسكو. يؤكّد ذلك القرار الألماني القاضي بالتخلي كلّيا عن الغاز الروسي من جهة وإعادة بناء الجيش الألماني من جهة أخرى.

في النهاية، بعد كلّ المقاومة التي أظهرها الشعب والجيش الأوكرانيان بدعم أميركي وأوروبي مكشوف ومعلن، هل لا يزال من مستقبل سياسي لبوتين؟ الجواب عن هذا السؤال سيحتاج إلى بعض الوقت. لكنّ الثابت أن ليس في أميركا وأوروبا من على استعداد للتعاطي مع الرئيس الروسي باستثناء ماكرون. لا يمكن الاستخفاف بعامل الثقة في العلاقات الدوليّة. نجح بوتين في ضرب الثقة عندما أخطأ في العنوان ولم يتنبه إلى أن أوكرانيا دولة أوروبيّة وليست سوريا التي يستطيع فيها تجربة الأسلحة الروسية في الشعب السوري من دون أن يجد من يحاسبه.

ستكون الحرب الأوكرانيّة حربا طويلة من دون أدنى شكّ. بدأت الحرب في الرابع والعشرين من شباط – فبراير الماضي ولا تزال مستمرّة. أسوأ ما في الأمر أن ليس هناك من يريد إيجاد مخرج لبوتين باستثناء قليلين أحدهم الرئيس الفرنسي الذي سيكون عليه الاتكال على كولونا لإيجاد مثل هذا المخرج ووضع صيغة له. تبدو هذه مهمّة مستحيلة إذا أخذنا في الاعتبار شخصيّة الرئيس الروسي نفسه الذي لا هدف له سوى الاحتفاظ بالسلطة من جهة وتأكيد أن روسيا قوّة عظمى في هذا العالم وأنّ الاتحاد السوفياتي لم يمت من جهة أخرى.

الأهمّ من ذلك كلّه، أنّ المخرج سيعني الاعتراف بالخطأ والاستعداد للخروج من السلطة عاجلا أم آجلا. الأكيد أن بوتين ليس من الرجال الذين يستطيعون الاعتراف بالخطأ، خصوصا أنّه لا يستطيع أن يرى نفسه خارج السلطة يوما!