مرة جديدة نتحدث عن الجولة المرتقبة للرئيس الأميركي جو بايدن في المنطقة التي سيزور خلالها كلاً من إسرائيل، الضفة الغربية والمملكة العربية السعودية. وما من شك في أن المحطة السعودية هي التي يسيل حولها الكثير من الحبر في الإعلام الأميركي.

وبعيداً من السجال الذي يتناول مسألة وعود الرئيس بايدن الانتخابية بشأن السعودية، والموقف من الأمير محمد بن سلمان، وقضية مقتل الصحافي جمال الخاشقجي التي استخدمها اللوبي المعادي تاريخياً للمملكة العربية السعودية، فإن زيارة الرياض ولقاء القيادة العليا فيها بدءاً بالملك سلمان، ثم ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الذي كان طوال عام ونصف هدفاً لحملات إعلامية منسقة في أميركا والغرب، ستكتسب الأهمية القصوى، بمعنى أنها ستمثل بمضمونها ترجمة للتحوّل الاستراتيجي الأميركي الذي بدأ يرتسم، ربما نتيجة للحرب في أوكرانيا والمواجهة الكبيرة التي يخوضها الغرب عموماً، وأميركا خصوصاً ضد روسيا بقيادة فلاديمير بوتين، فضلاً عن المواجهة المعلنة بين أميركا والصين، المنافس الأول للتفوق الأميركي في العقود المقبلة.

هذا التحول الاستراتيجي بدايته أن الولايات المتحدة لم يعد بإمكانها أن تنكفئ عن مناطق شديدة الأهمية الاستراتيجية، مثل الشرق الأوسط وأوروبا، تحت شعار توجيه كل الإمكانات لمواجهة الصين في الشرق الآسيوي. لقد أثبتت حرب أوكرانيا التي أشعلتها محاولة قوة كبرى إعادة كتابة التاريخ بشكل مختلف، أن صفحة الحرب الباردة لم تطو نهائياً مع سقوط جدار برلين، وانهيار الاتحاد السوفياتي، بل إنها بقيت حاضرة، وقد تحولت بعد ثلاثة عقود إلى حرب ساخنة على أرض أوكرانيا. هذا المعطى الجديد في العلاقات الدولية يدفع الولايات المتحدة إلى إعادة النظر في تموضعها في أقاليم استراتيجة بالنسبة إلى الأمن القومي الأميركي.

إن الشرق الأوسط إقليم مركزي في نظام المصالح الأميركية والغربية. لكن الأعوام القليلة الماضية شهدت تراجعاً كبيراً في العلاقات، إذ بدا لشركاء الولايات المتحدة في المنطقة أن أمنهم ومصالحهم لا تؤخذ في الاعتبار عندما تكون لواشنطن قراءة مختلفة عن قراءة الشركاء بالنسبة إلى التهديدات والتحديات. ولعل التحدي الأكبر كان في مرحلة رهان إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما على إنجاز اتفاق مع إيران حول برنامجها النووي. لكن الرهان الأهم خلال ولاية أوباما كان على تأسيس علاقات جديدة مع إيران، والانفتاح عليها انفتاحاً يغيّر وجه المنطقة. هذا الرهان سقط، لا سيما أن النظام في إيران استغل الاتفاق النووي المعقود عام 2015 من أجل تعبئة خزائنه، ثم تطبيق سياسية توسعية عدوانية في كل أرجاء الشرق الأوسط وخارجه على حساب مصالح الولايات المتحدة عالمياً، ثم أمن حلفائها، واستقرار الكيانات والدول.

هذا المنحى استمر خلال ولاية الرئيس دونالد ترامب، ثم تكرر بشكل أقوى مع مجيء جو بايدن إلى البيت الأبيض، ومعه الفريق الذي كان تولى الملف الإيراني أيام أوباما. وشكلت المقاربة العدوانية للعلاقات مع الحلفاء في المنطقة، وفي مقدمتهم المملكة العربية السعودية، القاسم المشترك بين عهدي أوباما وبايدن. لكن التطور الدراماتيكي الجيوسياسي في أوروبا الذي أحدثته حرب روسيا لابتلاع أوكرانيا، جاء بمثابة جرس إنذار للأميركيين الذين سرعان ما اكتشفوا حجم الثغرات التي تعانيها علاقاتهم مع حلفائهم في العالم. والأهم أن الولايات المتحدة باتت تعاني تراجعاً خطيراً في صدقيتها لدى الحلفاء.

صحيح أن قضية إمدادات النفط تعويضاً عن النفط والغاز الروسيين لم تستطع واشنطن إدارتها كما أرادت، لأنها واجهت برودة حلفائها إزاء مطالبها. لكن القضية أبعد من مجرد تأمين إمدادات نفطية وغازية تبقي الأسعار معتدلة. القضية هي قضية تموضع الولايات المتحدة الاستراتيجي في منطقة على تماس مع روسيا والصين، وفي قلب المنطقة إيران التي يمكن أن تصير منصة لحلف بكين – موسكو في مواجهة أميركا. هذه الأزمة دفعت الأميركيين دفعاً إلى إعادة التفكير في أن للحلفاء مصالحهم القومية التي لا يمكنهم التنازل عنها. لا بل أكثر أن الحلفاء ليسوا أتباعاً، بل هم حلفاء يفترض أخذ مصالحهم وهواجسهم بالنسبة إلى الأخطار التي تهددهم بالعمق، والبناء عليها للمحافظة على شراكة مفيدة للطرفين، لا سيما أن الخيار الأول لدول المنطقة لا يزال الولايات المتحدة، رغم أن العلاقات مع روسيا والصين أكثر من جيدة، وممتازة، لكن ما يجمع أميركا بدول المنطقة أعمق وأصلب، هذا إذا ما أحسنت واشنطن إدارة العلاقات بذكاء.

لقد بدأت ملامح التغيير تظهر في المقاربة الأميركية التي تسير على مستويات عدة، أهمها أن تصلح علاقاتها مع الحلفاء العرب من زاوية الاهتمام بالملف الأمني الدفاعي للمنطقة في مواجهة التهديدات الآتية من إيران وسياستها الإقليمية العدوانية. ويستطيع الأميركيون أن يبنوا نظام علاقاتهم المقبلة مع الشركاء في المنطقة، وهم العرب، وإسرائيل أساساً، ومن المحتمل للأتراك أن ينضموا في مرحلة لاحقة مع توافر شروط تتصل بسياسة أنقرة الإيرانية الخاصة!

زيارة الرئيس بايدن للمنطقة تتعلق أساساً بالمباشرة بوضع أسس حلف "ناتو" شرق أوسطي يضم الحلفاء العرب وإسرائيل، ويكون عابراً للعهود الرئاسية الأميركية. وهذا الهدف أساسي الآن. من هنا عدم تأجيل بايدن موعد زيارته إسرائيل، رغم أن الحكومة مقبلة على التغيير، مع اتخاذ قرار بحل الكنيست الإسرائيلي والدعوة إلى انتخابات تشريعية جديدة. فبايدن يعتبر أن العلاقات الأميركية الإسرائيلية لا تتوقف عند من يكون في السلطة. أما بالنسبة إلى الحلفاء العرب فالمقاربة الأميركية التي تركز كثيراً على بلورة حلف دفاعي في المنطقة يضم حلفاءها، وتكون هي مظلته يعكس فهماً جديداً للمخاطر التي تشكلها إيران، أكان عبر برنامجها النووي، لا سيما في شقه العسكري السري المستمر، أم عبر سياساتها التدخلية المزعزعة للاستقرار في المنطقة. والحلف الجديد متى أقيم هو نوع من أنواع الاحتواء لإيران، ليس من أميركا، بل من دول المنطقة التي لا تريد الاصطدام بإيران، لكنها ترفض أن تبقى جرماً فالتاً من كل قيد في سماء المنطقة.

وقوة الحلف الجديد تقوم على إقامة منظومة دفاع جوي عابرة للدول تنسق في ما بينها، وتضم أسلحة الجو (أكثر من 1000 طائرة متقدمة)، ومنظومات من الصواريخ المضادة للصواريخ وللطائرات المسيرة. إنها قوة ضخمة بمقاييس المنطقة، وستمكّن دولها من إقامة توازن جدي مع السياسة العدوانية الإيرانية في المنطقة، أكانت مباشرة أم بواسطة ميليشياتها المنتشرة في أكثر من بلد. ولا بد هنا من التوقف عند التوجه العسكري الجديد لدى إسرائيل الذي يقوم على استهداف ما يسمى بـ"رأس الأخطبوط" قبل "الأذرع". معنى هذا أن إسرائيل تستهدف قلب إيران بطرق مختلفة، وبوتائر عدة، لأنها ترى أن المواجهة الكبرى لم تعد بعيدة بينها وبين إيران.
إذا كانت إيران قد نجحت في شيء في المنطقة، فقد نجحت في تكتيل خصومها بعضهم مع بعض وولادة حلف "الناتو" الإقليمي الجديد.