الديمقراطية، ذلك المصطلح الذي يشع بريقاً زائفاً، ويُروج له كذروة العدالة ومرآة الحرية…!

في الواقع، هي نظام يعكس تناقضات البشرية أكثر مما يحقق أحلامها. حين ننظر عن قرب إلى الديمقراطية، نجد أنَّها ليست أكثر من قناع جميل يخفي عيوباً أخلاقية ومنطقية وقانونية تجعلها أحياناً آلة للقمع المنظم. كيف لنظام يُفترض أن يساوي بين الجميع أن يُبنى على قاعدة حكم الأغلبية، التي تحمل في طياتها بذور طغيان مقنن؟

الديمقراطية تدّعي العدالة، لكنها تُمارس إقصاءً ممنهجاً. الأغلبية تتحكم في الأقليات، تصوغ القرارات وتسن القوانين وفقاً لرغباتها، تاركة الأقليات تُصارع للحفاظ على هويتها وحقوقها. أين العدل في أن تُقاس قيمة الفرد بصوته الانتخابي فقط، دون اعتبار لعواقب القرارات التي قد تُسحق تحت وطأتها طموحات الأقلية؟ الأغلبية، وإن بدت شرعية، ليست دائماً محقة، وما يُسمى بإرادة الشعب قد تتحول بسهولة إلى عصا تُجلد بها الأفكار المختلفة أو تُكمم بها الأصوات المعارضة.

الأخلاق في الديمقراطية ليست إلا لعبة نسبية. من يملك السلطة يملك تعريف الصواب والخطأ، وما يُسمى بالشرعية الديمقراطية غالباً ما يكون غطاءً للشعبوية والاستغلال. هل من الأخلاق أن تتحول قرارات مصيرية تمس أرواح الناس ومستقبلهم إلى مادة للنقاش الشعبي الذي قد يُبنى على الجهل أو التأثير الإعلامي الموجّه؟ كيف يمكن لنظام يُمكّن أصحاب النفوذ والمال من التأثير على عقول الناخبين أن يدّعي الأخلاق؟ الديمقراطية في شكلها الحديث ليست إلا سوقاً مفتوحة تُباع فيها القرارات لمن يملك القدرة على صياغة الحملات الدعائية الأكثر بريقاً!

إقرأ أيضاً: الليلة الأولى للطاغية في موسكو الباردة

أما المنطق، فهو غائب تماماً في هذا النظام الذي يعتمد على افتراض وعي الناخبين وقدرتهم على اتخاذ قرارات سليمة. في عالم تسيطر عليه المعلومات المضللة والعواطف المتأججة، يتحول الناخبون إلى أدوات تتحرك وفق أهواء الإعلام والسياسيين الشعبويين. الديمقراطية لا تنتج الأفضل، بل تنتج الأكثر شعبية، وهذا غالباً ما يعني تقديم وعود جوفاء وإثارة العواطف بدلاً من تقديم حلول حقيقية. كيف يمكن لنظام يُفترض أنه عقلاني أن يسمح باختيار قيادات بناءً على شعارات زائفة وأكاذيب مُغلّفة بالوعود؟

القانون في الديمقراطية ليس سوى أداة بيد من يصل إلى السلطة. من يمتلك الأغلبية يصيغ القوانين بما يخدم مصالحه، حتى لو كان ذلك على حساب حقوق الأفراد أو الجماعات الأخرى. أين العدالة حين تُستغل القوانين لتكريس سلطة الأغلبية وقمع المعارضة؟ أين النزاهة حين يتحول المال إلى عامل حاسم في الانتخابات، يسمح للأثرياء بشراء النفوذ وفرض أجنداتهم على الشعوب؟ الديمقراطية تُغرق نفسها في تناقضاتها، تدّعي أنها نظام للمساواة بينما تتيح للمال والنفوذ أن يشكّلا قواعد اللعبة.

إقرأ أيضاً: الإشعاع الخفي: قتل صامت دون أثر

الديمقراطية ليست الحل السحري الذي يُنهي مشاكل البشرية، بل هي نظام يحتاج إلى مراجعة مستمرة وإعادة تشكيل جذري. الاستمرار في عبادة هذا النظام دون الاعتراف بعيوبه يعمّق أزماته ويزيد من هشاشته. إن عدالة الديمقراطية مشروطة بوعي الشعوب، وحين يغيب هذا الوعي، تتحول الديمقراطية إلى أداة استبداد جديدة، تُمارس باسم الشعب، لكنها تخدم مصالح قلة. إذا لم نواجه هذه الحقائق بصراحة ونتجرأ على إعادة التفكير في أسس الديمقراطية، فإننا نعيش وهماً سيُكلفنا أكثر مما نتخيل. الديمقراطية ليست غاية، بل وسيلة، لكنها وسيلة تحمل في داخلها كل أسباب فشلها.

ختاماً، نصيحة: لا تبنِ جسور الديمقراطية على أنهار الدم، فالمجتمعات التي عانت من الفوضى ستنقل معها فوضويتها إلى مشروع البناء، لتصبح الديمقراطية بذرة في أرضٍ لم تُطهّر بعد من رماد الدمار.